حليفٌ يضر بك أسوأ من عدو يطلق عليك النار. هذه قد تأخذ شكل "حكمة"، إلا أنها واقع في العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا.
ولو حدث أن قرأ المرء خبرا عنوانه "الولايات المتحدة تقصف مصانع السيارات الأوروبية"، فانه لن يصدق، لأن بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تحالف أخوة لا يسمح بقصف من هذا النوع. أو لعل المرء يسأل: ما الذي جرى للعالم لكي يحدث فيه عمل كهذا؟ هل أصيب بالجنون؟
ولكنه الواقع فعلا. وفيه من خشونة العدوانية ما لا يمكن للخيال أن يبلغه.
فبينما يغرق الطرفان في حرب تخاض على الأراضي الأوكرانية، ويجندان الكثير من الإمكانيات العسكرية لأوكرانيا، ويقدمان لها دعما اقتصاديا ومعونات إنسانية ضخمة، فان الحرب ضد روسيا ليست أثقل، من حيث عواقبها، من الحرب التي تزمع الولايات المتحدة شنها ضد الصناعات الأوروبية.
الضرر، بكل المعاني الحسابية الممكنة، سيكون أكبر من كل الخسائر التي تتحملها أوروبا لدعم المجهود الحربي الأوكراني.
"قانون خفض التضخم" الذي قدمته إدارة الرئيس جو بايدن وأقره الكونغرس، يوفر دعما بقيمة 420 مليار دولار لشركات صناعة السيارات الكهربائية والبطاريات ومشاريع الطاقة المتجددة وصناعة الرقائق الإلكترونية وغيرها التي تعمل داخل الولايات المتحدة أو تنقل مصانعها إليها.
هذا يعني أن كل الشركات الأوروبية المنافسة في تلك المجالات سوف تقع ضغط يعادل ما يوفره هذا المبلغ من حوافز وميزات. ومنها، على سبيل المثال، أن القانون يمنح 7500 دولار في شكل ائتمانات ضريبية لمشتري السيارات الكهربائية المصنعة في الولايات المتحدة.
وهذا واقعٌ يُجبر الحكومات الأوروبية على أن تُسعف شركاتها بدعم مماثل لكي تنجو من القصف الأمريكي لمصانعها.
وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن قال في 12 اكتوبر الماضي، أن المبلغ الإجمالي للمساعدات العسكرية التي قدمتها واشنطن لكييف منذ بدء الحرب في أوكرانيا بلغ 16.8 مليار دولار.
أيهما أثقل؟ صواريخ هيمارس على القوات الروسية، أم صواريخ "قانون خفض التضخم" على الصناعات الأوروبية؟
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان من الجرأة بما يكفي ليقول، خلال "زيارة الدولة" التي قام بها الى الولايات المتحدة، وأمام الرئيس بايدن مباشرة، بأن هذا القانون "شديد العدوانية" وأنه سيؤدي الى "تفتيت الغرب" ويجعل من أوروبا ضحية للتنافس التجاري بين الصين والولايات المتحدة.
ماكرون احتاج الى الكثير من رباطة الجأش لكي يُبقي بصيص الأمل قائما بمعالجة الأزمة. وهو ما لم يتمكن منه تيري بريتون مفوض السوق الداخلية بالاتحاد الأوروبي الذي رفض المشاركة في "قمة مجلس التجارة والتكنولوجيا للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة"، لأنه لم يخصص إلا 45 دقيقة، على الغداء، لبحث القصف الصاروخي الذي تهدد به الولايات المتحدة الصناعات الأوروبية. ولسان حاله يكاد يقول: أنتم وغداؤكم الى جهنم.
روسيا قد تقصف بعض المنشآت الحيوية في أوكرانيا. إلا أن الأضرار الناجمة عنها كانت قابلة للإصلاح بسرعة فائقة الى حد بعيد. انقطاع التيار الكهربائي عن المدن المتضررة من القصف الصاروخي الروسي، ظل محدودا، وتمكنت الطواقم الفنية من إصلاح نسبة عالية من الأضرار، تزيد على 75 بالمئة، في غضون وقت يتراوح بين يومين الى خمسة أيام.
القصف الأمريكي للصناعات الأوروبية مدمر أكثر. ولا يمكن إصلاحه، بحسب تيري بريتون، إلا بإنشاء صندوق سيادي يخصص 2 بالمئة من الناتج الإجمالي لكل دول الاتحاد من أجل دعم الصناعات التي تتضرر من برنامج الإعانات والإعفاءات الضريبية الذي تكسبه الشركات الأمريكية المنافسة، أو ما يصل الى نحو 350 مليار يورو.
الـ2 بالمئة من الناتج الإجمالي، رقم ذو بعد رمزي أيضا، وهو حجم المبلغ الذي تخصصه الدول الأوروبية الأعضاء في الحلف الأطلسي لميزانياتها الدفاعية.
إنهما حربان في الواقع، وليست حربا واحدة. وكل منهما تتطلب المبلغ نفسه للدفاع عن الأمن والمصالح الاقتصادية. واحدة تخاض ضد "عدو" تخشى أن يطلق عليك النار. والأخرى يشنها "حليف" يقصف المصانع، بصواريخ اقتصادية ناعمة، فيهدد ملايين الوظائف، ويكلف أضرارا أكثر مما تكلفه الصواريخ الروسية ضد أوكرانيا.
الخسائر على جبهة الحرب مع روسيا أخف وأقل وطأة بكثير. لأن إجمالي الدعم العسكري والاقتصادي والإنساني الذي قدمه الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا لم يصل بعد الى 50 مليار يورو. بينما يحتاج هذا الاتحاد الى سبعة أضعاف هذا المبلغ لكي يحمي نفسه من الأعمال "العدوانية" الأمريكية ضده.
السؤال الممض هو: كيف تثق بحليف يحاربك ويكبدك خسائر أكبر مما يكبدك بها عدو يطلق عليك النار؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة