المواجهة بين أمريكا وإيران.. هل تبدأ الحرب السيبرانية؟
الحرب السيبرانية بديلًا جذابًا، فهي حرب لا يُشارك فيها جنود ولا تسيلُ فيها دماء، وإنما تلحق بالعدو خسائر تقدر ببلايين الدولارات.
شهدت الأسابيع الثلاثة الأخيرة تحولًا في استراتيجية تعامل الولايات المُتحدة في مواجهة إيران، وإذا استعرنا ألفاظا من رياضة المُلاكمة فقد حدث تحول من اتباع استراتيجية السعي للفوز بالضربة القاضية إلى الفوز بالنقاط.
ففي المرحلة الأولى كان الرئيس ترامب يتحدث عن "إبادة إيران"، و"أن الحرب لن تستغرق وقتًا طويلًا"، وذلك إشارة إلى الفارق الهائل في إجمالي القدرات العسكرية بين البلدين، وأنه ألغى قرارا بشن ضربة جوية على إيران بعد أن تبين له العدد الكبير من الضحايا البشرية المتوقعة في حال قيامها.
- اجتماع أمني مفاجئ في إيران وتحذير من تداعيات اختطاف ناقلة لندن
- تقرير ألماني يحذر من اعتداءات إيرانية جديدة بمضيق هرمز
أما الآن فقد تراجعت حدة الحديث عن الحرب، وبدأت واشنطن في ممارسة مزيد من الضغوط الاقتصادية، وطلبت من الحكومة البريطانية احتجاز ناقلة نفط إيرانية في مضيق جبل طارق بدعوى أنها تنقل نفطا إلى سوريا بالمخالفة للقرارات الدولية. ولم تقم بتصعيد عسكري بعد اقتراب طائرة إيرانية بدون طيار "درون" من إحدى بوارجها الحربية، وقيام القوات الأمريكية بتدمير الطائرة.
نلاحظ نفس التوجه في رد الفعل الأمريكي على خبر اختفاء ناقلة نفط في مياه الخليج، ولم يتم الإعلان رسميا عن هويتها أو من قام بإخفائها، ثم قيام إيران باحتجاز ناقلة نفط بريطانية. وظهر نفس رد الفعل المحسوب في تصريح وزير الخارجية البريطاني في 21 يوليو/ تموز الجاري في أعقاب احتجاز إيران لناقلة نفط بريطانية، وتأكيده على أن الحكومة البريطانية ترغب في خفض التوتر مع إيران والوصول لحل هذه المشكلة بالطرق الدبلوماسية.
من الواضح إذن أن الولايات المتحدة لا ترغب في دخول حرب مكشوفة تستخدم فيها الصواريخ والطائرات، وأنها تبحث عن بديل آخر. ومن الأرجح أنها تسعى إلى استخدام قدراتها في مجال الحرب السيبرانية أو الحرب الإلكترونية. وهو ما أشار إليه عدد من مقالات الرأي في كبريات الصحف الأمريكية، مثل نيويورك تايمز، وواشنطن بوست، ولوس أنجلوس تايمز، التي ورد فيها أن الولايات المتحدة قامت بالفعل مؤخرا بأكثر من هجمة سيبرانية استهدفت نظم إطلاق الصواريخ في إيران، وذلك كبديل عن الضربة الجوية التي ألغاها الرئيس الأمريكي.
تبدو الحرب السيبرانية بديلا جذابا، فهي حرب لا يشارك فيها جنود وطائرات وصواريخ، ولا تسيل فيها دماء ولا يسقط فيها موتى، وإنما تلحق بالعدو خسائر مالية تقدر ببلايين الدولارات، وقد نشأ مفهوم الحرب السيبرانية مع الاتجاه المتزايد نحو استخدام برامج الحاسب الآلي والذكاء الاصطناعي في كافة مجالا الحياة الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، وخصوصا في مجال السيطرة عن بُعد، وتوجيه الأقمار الصناعية والمركبات الفضائية والطائرات والصواريخ، مما أوجد فضاءً جديدًا وهو الفضاء السيبراني، وذلك إضافة إلى الفضاءات البرية والبحرية والجوية، والذي تتنافس فيه الدول المتقدمة علميًا لتطوير قوتها السيبرانية للسيطرة على هذا الفضاء. وسعى بعض التنظيمات من غير الدول التي تُمارس العُنف مثل تنظيم داعش وتنظيم القاعدة والحوثيين إلى امتلاك قُدرات سيبرانية واستخدامها فظهر مفهوم "الإرهاب السيبراني".
ويشير مفهوم الحرب السيبرانية أو الإلكترونية الذي ظهر لأول مرة في عام 1993 إلى عملية اختراق البنية المعلوماتية للعدو وما يرتبط بها من شبكات وتطبيقات، ويشمل ذلك إلحاق الخلل وتعطيل أو إفساد شبكات الاتصال، مما يترتب عليه التأثير على تدفق المعلومات بين وحدات الشبكات التي تعتمد عليها في أداء عملها. وقد تكون الشبكة المستهدفة تخدم النظام المصرفي والقطاع المالي (بنوك وبورصات وأسواق مال) أو النظام التعليمي والبحثي (مدارس وجامعات ومراكز بحثية) أو قطاعا خدميا (شبكات توزيع الكهرباء والمياه والغاز).
كما تشمل القطاعات المستهدفة المجال السياسي (التأثير في الانتخابات واتجاهات الناخبين) أو القدرات العسكرية -وهذا هو بيت القصيد- أي التأثير على النظم المتعلقة بمنظومة الدفاع والهجوم.
وتتمثل أدوات هذه الحرب في القرصنة الإلكترونية ونشر الفيروسات، وذلك بهدف اختراق شبكات المعلومات وسرقة قواعد بياناتها أو تدميرها.
تتميز الحرب السيبرانية بعدة سمات، منها أنها خفية أي غير منظورة وغير شفافة، ومن الصعب إثبات هوية الطرف الذي قام بالهجوم، وأنها لا ترتبط بمنطقة جغرافية أو ساحة محددة بل يستطيع المهاجم أن يختار هدفه في أي موقع، فهي حربُ ساحتها العالم، وهي عابرة للحدود بين الدول والقارات، كما أنها تحقق أهدافها دون مواجهة مباشرة بين أطرافها، ولا يسقط فيها قتلى أو جرحى وتحقق نتائجها بسرعة فائقة.
كانت أمريكا من الدول الرائدة في استكشاف القوة السيبرانية وتطوير قدراتها في هذا المجال، ففي عام 2016 أعلن الجيش الأمريكي إنشاء قيادة عسكرية جديدة هي القيادة السيبرانية، وذلك بهدف تأمين الفضاء السيبراني للولايات المتحدة وحلفائها من التهديد الخارجي والقيام بعمليات سيبرانية لحماية الأمن القومي الأمريكي، بالإضافة الى الدور المهم الذي قامت به وكالة الأمن القومي الأمريكي في هذا المجال.
وفي عام 2018 أقرت وزارة الدفاع استراتيجية الفضاء الإلكتروني التي ترتكز إلى مبدأ "الدفاع المتقدم" أن أفضل وسيلة للدفاع هي إلحاق الهزيمة بالعدو في عقر داره، ومن الناحية العملية قامت الولايات المُتحدة في سنوات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين بشن هجمات سيبرانية ضد البرنامج النووي الإيراني والبرنامج الصاروخي لكوريا الشمالية، وربما في أماكن أخرى.
ومع ازدياد التنافس بين القوى الكبرى في مجال الحرب الإلكترونية أوصت دراسة حديثة- أصدرتها مؤسسة راند عام 2019- الحكومة الأمريكية بضرورة توجيه مزيد من الاهتمام والاستثمارات في مجال الحرب الإلكترونية حتى لا تفقد الولايات المتحدة مكانتها المتميزة أو موقعها القيادي في هذا التسابق.
كانت إيران هي الأخرى من الدول التي دخلت المجال السيبراني مبكرا، واستثمرت فيه الكثير من الجهد والمال، وكانت نقطة التحول في هذا الاهتمام هو الهجوم السيبراني الذي تعرضت له منشآتها النووية في عام 2010، ففي العامين التاليين تم إنشاء عدد من الوحدات لتولي مسئوليات الدفاع والهجوم السيبراني في الجيش والحرس الثوري والباسيج، ثم صدر قرار بإنشاء المجلس السيبراني الأعلى عام 2012، وذلك لرسم سياسة إيران في المجال السيبراني والتنسيق بين هذه الأجهزة والوحدات العاملة في هذا المجال لتنفيذ السياسة.
وبالطبع لا تعلن إيران عن الهجمات السيبرانية التي تقوم بها، ولكن من الواضح أنها استخدمت ساحة الحرب السيبرانية في عدة مناسبات مثل الهجوم الذي تعرضت له شركة أرامكو السعودية الذي ترتب عليه محو بيانات ما يقرب من 30 ألف حاسب آلي، والهجوم الذي استهدف القطاع المالي في الولايات المتحدة عام 2012، وكذلك الهجوم على حسابات لعب القمار في مدينة لاس فيجاس عام 2014. والهجوم على الحسابات الشخصية ومواقع التواصل الاجتماعي لعدد من المسئولين الأمريكيين عام 2015, والهجوم على بعض خطوط توزيع الغاز والكهرباء لأول مرة في عام 2013، ثُم تكرر في يوليو/ تموز 2019 في مدينة نيويورك.
تظهرُ الحربُ الإلكترونية إذن كبديل مُناسِب لكل من أمريكا وإيران لأسباب مُختلِفة، فبالنسبة لأمريكا فإنها تُوفر لها مسارًا لا يُورطُها في حربٍ مفتوحة أو قِتال ليست له نهاية واضحة، وبالنسبة لإيران فإنها تُمثلُ نموذجًا مُلائِمًا للطرف الأقَل قُدرًة في حالة الحروب غير المُتكافئة، وتُوفر لها ميزة تُعوض بها الاختلال الفادح بين قدراتها والقُدرات الأمريكية.
المُشكِلة في هذا البديل أن الحرب الإلكترونية تُمثل بديلًا مُناسِبًا في حالة القيام بهجمات مُتفرقة لمُدة محدودة من الزمن غير أنها لا تُمثل أسلوبًا لإدارة صراع مُمتَد. ففي هذه الحالة يُصبح الانزلاق من الحَرب السيبرانية إلى حرب الطائرات والصواريخ أمرًا وارِدًا. وأعتقد أن هذا هو السبب الذي جعل أمريكا وإيران يتبنيان أساليب هذه الحرب بشكل مُتقطع ومؤقت وبصورة انتقائية.