أمريكا تطرق أبواب مالي.. فرص «مشروطة» وسط ظلال موسكو

في لحظة تعاد فيها رسم خرائط النفوذ الجيوسياسي في الساحل الأفريقي، تحاول واشنطن استعادة موطئ قدم في منطقة بدأت تنزلق من بين يدي القوى الغربية، لصالح قوى أخرى.
واعتبر محللون تحدثت إليهم «العين الإخبارية» أن زيارة المبعوث الأمريكي رودولف عطا الله إلى مالي، تؤكد أن «واشنطن تدخل السباق هذه المرة بخطاب جديد قوامه احترام السيادة، وشراكات لا تقوم على التبعية، ومحاولة لفك ارتباطها بالإرث الفرنسي الذي بات مرفوضاً محلياً، في مقابل الحد من تغلغل دول أخرى مثل روسيا».
وأكد المحللون أن زيارة عطا الله إلى باماكو تُعد اختبارًا أوليًّا لرغبة واشنطن في العودة، ولقدرة مالي على المناورة بين المحاور الدولية دون الوقوع في فخ الاصطفاف.
زيارة المبعوث
واختتم المبعوث الأمريكي الخاص، رودولف عطا الله، زيارته إلى العاصمة المالية باماكو، والتي استمرت عدة أيام، الأحد الماضي، وشهدت سلسلة من اللقاءات والمباحثات مع كبار المسؤولين الماليين، بينهم وزيرا الخارجية والأمن.
لكنه لم يلتقِ الرئيس الانتقالي أسيمي غويتا أو وزير الدفاع ساديو كامارا المعروف بقربه من روسيا، في إشارة إلى حساسية التوازنات الدولية في مالي.
الدعم الكامل
وخلال الزيارة، قدّم المبعوث الأمريكي عرضًا رسميًا لتعزيز التعاون الأمني والعسكري بين الولايات المتحدة ومالي، مؤكدًا استعداد واشنطن لتقديم الدعم الكامل للسلطات المالية.
وفي تصريح صحفي عقب ختام الزيارة، قال عطا الله: "جئت إلى مالي مبعوثًا من البيت الأبيض لعرض دعمنا الكامل للسلطات المالية".
وأضاف: "نحن نمتلك أقوى جيش في العالم، وننتج أكثر الأسلحة تطورًا، ونحن الأقدر على مواجهة التهديدات الإرهابية".
وحول علاقات مالي مع روسيا، قال عطا الله إن هذا "خيار سيادي نحترمه"، مشددًا في الوقت ذاته على الأهمية الاستراتيجية التي تمثلها مالي بالنسبة للولايات المتحدة.
من جانبها، أكدت السلطات المالية أن أي شراكة دولية يجب أن تقوم على ثلاثة مبادئ أساسية: الاحترام الكامل لسيادة مالي، احترام خياراتها الاستراتيجية، وضمان أن تكون مصلحة الشعب المالي في صلب أي تعاون دولي.
تحولات عميقة
وتأتي زيارة المبعوث الأمريكي، المساعد الأول لمكافحة الإرهاب في مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض، في وقت تشهد فيه منطقة الساحل الأفريقي تغيرات على المستويين الأمني والجيوسياسي.
وتراجعت مكانة القوى الغربية التقليدية، وتقدمت قوى جديدة مثل روسيا وتركيا مستفيدة من الفراغ الناتج عن انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا.
خارطة طريق
ورغم أن زيارة المبعوث الأمريكي لم تفضِ إلى توقيع اتفاقيات رسمية، فإن الجانبين اتفقا على خارطة طريق تقنية، تضمنت عقد اجتماعات على مستوى الخبراء الأمنيين. وقد يكون ذلك اختبارًا لإمكانية إعادة بناء الثقة بين الطرفين.
ويبدو أن السلطات المالية تسعى إلى تنويع شركائها دون الوقوع في التبعية لمحور بعينه.
ورأى خبراء أن النتائج الأولية للزيارة محدودة على المستوى المؤسساتي، لكنها مهمة من الناحية الرمزية، وذلك باستئناف الحوار الرسمي بعد قطيعة دامت أكثر من ثلاث سنوات، إضافة إلى أن تأكيد الجانب الأمريكي على احترام السيادة يمثل تحولًا في المقاربة الأمريكية تجاه دول الساحل الأفريقي.
توقيت حساس
الخبير المصري في الشؤون الأفريقية الدكتور رامي زهدي يرى من جانبه أن زيارة المبعوث الأمريكي لباماكو تأتي في توقيت بالغ الحساسية، وفي وقت تحاول الولايات المتحدة شراء أي شيء وكل شيء حتى ولو قسرًا.
وقال زهدي لـ«العين الإخبارية»: تختلف الأثمان المعروضة ما بين ترغيب وترهيب، مساعدات أو تهديدات أو شراكات، منها ما هو عادل ومنصف ومنها ما هو جَورٌ وظلم.
وأضاف أن مالي تشهد تحولًا استراتيجيًا الآن في تحالفاتها الدولية، إذ عمدت منذ تغيير النظام الحاكم عام 2021 إلى تقليص الاعتماد على الشركاء الغربيين، وعلى رأسهم فرنسا، وبدأت توطيد العلاقات مع روسيا بشكل غير مسبوق وفي كل المجالات، وخاصة العسكرية.
وأشار إلى أن الولايات المتحدة تنظر بقلق متزايد إلى تمدد النفوذ الروسي في الساحل الإفريقي، وقال إن ذلك يأتي بعد أن أصبحت مجموعة "فاغنر" أو بدائلها، ممثلة في الفيلق الروسي الأفريقي، شركاء ميدانيين للجيوش المحلية، كما هو الحال في مالي وبوركينا فاسو والنيجر.
دلالة سياسية
وأوضح الخبير المصري أن زيارة المبعوث الأمريكي تحمل دلالة سياسية واضحة، مفادها أن واشنطن لم تتخلَ عن نفوذها في مالي، وتسعى لإعادة التموضع عبر أدوات غير فرنسية، بما فيها العروض المباشرة للتعاون الأمني والاستخباراتي.
وقال إن الحلف الأوروبي-الأمريكي في أفريقيا لم يعد بذات القوة بعد خروج القوات العسكرية الفرنسية وظهور التنافس بينهما.
وأضاف أنه وفقًا للتسريبات والتصريحات الرسمية، فإن المبعوث الأمريكي قدم عرضًا رسميًا لتعزيز التعاون الأمني والعسكري مع مالي، مع التركيز على تدريب القوات المسلحة المالية، ومشاركة المعلومات الاستخباراتية حول الجماعات الإرهابية، إضافة إلى تقديم مساعدات لوجستية وتقنية في مواجهة التهديدات المتطرفة، خاصة في وسط مالي ومنطقة الحدود بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو.
وتابع: «كما ألمحت واشنطن إلى استعدادها لدعم مالي اقتصاديًا وإنسانيًا إذا أعادت التموضع في علاقاتها الدولية».
رد فعل
وأكد الخبير المصري أنه من المهم هنا فهم المنطق السياسي للعسكريين في باماكو.
وقال إن السلطات الانتقالية في مالي، بقيادة الكولونيل أسيمي غويتا، تعطي الأولوية للاستقلالية في القرار الوطني، وهو ما كان دافعًا أساسيًا نحو الانفصال التدريجي عن فرنسا.
وأشار إلى أن التقارب مع روسيا جاء كرد فعل استراتيجي على الإحباط من التجربة الغربية، وليس حبًا في موسكو.
وأوضح أن العرض الأمريكي قد يُقابَل بنوع من الترحيب المشروط، بحيث لا يُنظر إليه كبديل عن روسيا، بل كنوع من تنويع الشركاء.
ولم يرجح أن تقدم مالي تنازلات سياسية كبيرة للغرب في هذه المرحلة، لكنها قد تستثمر الزيارة لتحقيق توازن أكبر.
التنافس الدولي
وأشار إلى أن تقارب مالي مع روسيا لا يزال قويًا، خاصة في المجال العسكري، حيث تؤدي قوات فاغنر أو حلفاؤها أدوارًا ميدانية ملموسة في تأمين المواقع الحيوية، وتدريب القوات، ومكافحة التمرد.
وقال: مع ذلك، فإن مالي قد تسعى للاستفادة من التنافس الدولي على أرضها، عبر فتح قنوات مزدوجة مع موسكو وواشنطن، دون أن تضطر إلى الاصطفاف بشكل أحادي.
ورجّح ألا تتأثر العلاقة بين مالي وروسيا سلبًا إلا إذا اشترطت واشنطن انسحاب فاغنر أو تقليص التعاون الروسي كشرط للمساعدة، وهو ما قد ترفضه باماكو بشكل واضح.
ورأى أن مالي لن تعود إلى الحظيرة الغربية بالشكل التقليدي، لكنها منفتحة على علاقات براغماتية مع الجميع، بشرط احترام سيادتها وقراراتها الوطنية.
وقال إن الولايات المتحدة قد تجد فرصة لتوسيع نفوذها مجددًا، شريطة أن تُظهر تفهمًا للواقع الجديد في الساحل الإفريقي، وأن تفصل نفسها عن الإرث الفرنسي الذي أصبح عبئًا سياسيًا هناك.
وأوضح أن التعاون الأمريكي – المالي مرهون بمدى مرونة الطرفين، وبقدرة واشنطن على تقديم حوافز حقيقية دون شروط فوقية.
وقال إن روسيا من جهتها قد تُسرّع خطواتها لتعزيز حضورها العسكري والاقتصادي في مالي تحسبًا لأي اختراق أمريكي جديد.
ستتطور ببطء
من جهته رأى عميد كلية الدراسات العليا والبحث العلمي في الجامعة الإسلامية في النيجر والكاتب المتخصص في غرب أفريقيا الدكتور علي يعقوب أن زيارة المبعوث الأمريكي لباماكو لن تؤثر في التعاون بين مالي وروسيا.
وقال يعقوب لـ«العين الإخبارية» إن أمريكا لن تدخل في تعاون عسكري مباشر مع مالي مبكرا، مضيفا: «أرى أن العلاقات بين أمريكا ومالي ستتطور ببطء في مجالات أخرى، مثل الاقتصاد والثقافة والتنمية على وجه الخصوص».
ولفت إلى أن «باماكو قد ترفض العلاقات الأمنية والعسكرية مع أمريكا في الوقت الحالي، لأن النيجر وبوركينا فاسو قد تعارضان ذلك"، متوقعا أن تأتي هذه الزيارة بنتائج إيجابية.
وقال إنها ستمهد الطريق لعودة العلاقات بين البلدين وكذلك بين واشنطن من جهة والنيجر وبوركينا فاسو من جهة أخرى.
باب جديد
أما الكاتب الصحفي والمحلل السياسي بالنيجر الحسين طالبي فيرى أن مالي بصدد ربط العلاقات مع كل شريك جاد، وأنها مستعدة لقبول مبدأ احترام سيادتها.
وقال طالبي لـ«العين الإخبارية» إن زيارة المبعوث الأمريكي إلى مالي تؤكد ذلك، متوقعا أن الزيارة ستفتح بابا جديدًا لتعاون متوازن رابح، بدون أن يؤثر ذلك على تقرب باماكو من موسكو كما يتمناه حكام مالي الحاليين.
وأضاف: «نعتقد أن الولايات المتحدة تحاول البقاء بقرب مالي وتحقيق شراكات إستراتيجية، كي لا تترك الفراغ لروسيا وحلفائها».
وتابع: «كلما انتبهت السلطات المالية، وركزت على كل ما يحمي مجدها ومصالحها في إطار هذه الشراكات سيعطيها ذلك فرصة الغلبة والانتفاع من تنافس هاتين القوتين».