مع أن كينيدي كان القائد الأعلى للقوّة العسكريّة الأولى في العالم، إلا أنه خلال فترة رئاسته لم يرسل فرقة عسكريّة واحدة خارج الحدود.
هل باتت الولايات المتّحدة في حاجة إلى رئيس جديد من طراز الرئيس المغدور جون كينيدي؟، هذا الذي اعتبره "نايجل هاملتون" كاتب السير البريطانيّ الكبير، في مؤلَّفه الأشهر "القياصرة الأمريكيّون"، أحد الذين بلغوا مستوى من العظمة في مرحلة لاحقة؟.
الناظر إلى الداخل الأمريكيّ اليوم يرى المشهد متشظّيًا بشكل مثير للشفقة في أمّ الديمقراطيّات الحديثة إن جاز التعبير، الدولة التي جاهرت طويلاً بأنّها "مدينة فوق جبل"، تنير العالم بأضواء الحلم الأمريكيّ.
ولعلّ سياق الانتخابات الرئاسيّة القادمة 2020 هو الذي استدعى ذاك التساؤل عن كينيدي، الرجل الذي وَأَدتْ الأصابع الخفيّة الظلاميّة رئاسته الأولى، والتي كانت قادرة على تغيير وجه العالم في مرحلة مبكّرة من ستّينات القرن الماضي.
والشاهد أنّ مسيرة كينيدي تبدأ من قبل دخوله البيت الأبيض، ذلك أنّه حين كان عضوًا في مجلس الشيوخ وقبل تولّيه الرئاسة، ألَّفَ كتابًا مهمًّا وصف فيه أعضاء مجلس الشيوخ الذين تحدّوا الضغوط الحزبيّة وصوَّتوا وفقًا لما تمليه عليهم ضمائرهم. وقد امتدحهم كينيدي لأنّهم امتلكوا الشجاعة، لينشقّوا أو يستقلّوا عن أحزابهم التي مارست ضغوطًا هائلة عليهم جنبًا إلى جنب مع الرأي العامّ ليصوِّتوا لصالح تلك الأحزاب.
في مؤلَّفه الشيِّق "الرئاسة: تشريف أم تكليف" يتساءل الباحث وعالم السياسة الأمريكيّ الشهير "توماس كرونين": "هل كان كينيدي زعيمًا يتّسم بالسموّ الأخلاقيّ؟
يحاجج البعض بأنّ كينيدي على المستوى الشخصيّ كانت له نزواته المعروفة، لكن ذلك لم ينتقص أبدًا من قدر سموِّه كرئيس، وإن لم يكمل ولاية أولى، ويكفي أنّه الرجل الذي أنقذ مع أخيه روبرت المدّعي العامّ، العالم من حرب نوويّة لا تُبقِي ولا تذر.
والثابت أنّه مع أن كينيدي كان القائد الأعلى للقوّة العسكريّة الأولى في العالم، إلا أنه خلال فترة رئاسته لم يرسل فرقة عسكريّة واحدة خارج الحدود ولم يُلْقِ قذيفة على أرض أجنبيّة، بل استغلّ فترة رئاسته في تحطيم الحواجز التي تحول دون المساواة الدينيّة والعرقية وتحقيق التوازن في البلاد.
استطاع كينيدي أن يبسُط يده لضحايا الفقر والقمع، وحثَّ الأمريكيّين على خدمة مجتمعهم وحبّ جيرانهم بغضّ النظر عن لون بشرتهم.
شنَّ كينيدي في واقع الحال حربًا، لكنّها لم تكن على البشر أو الدول، بل ضدّ الفقر والأميّة والضعف الفكري المستشري في البلاد. وهو الذي أعاد الشباب إلى أحضان السياسة، وأرسل متطوّعي فيالق السلام إلى كلّ أنحاء العالم لكي يدعموا الفقراء والمعوزين.
علامة استفهام أخرى: "هل على الرئيس الأمريكيّ الجديد، أن يتوقّف بعناية فائقة أمام خطاب القَسَم الذي ألقاه "جون فيتزجيرالد كينيدي" الرئيس الخامس والثلاثون للولايات المتّحدة الأمريكيّة، نهار الاثنين 20 يناير كانون الثاني 1961؟
حتمًا، نحن هنا لا نتحدّث عن ترامب أو بايدن، فكلاهما لا يمكن تصنيفه في خانة كينيدي، وإن كانت هناك أسماء تتخفّى وراء التلال والأكمة الأمريكيّة، ربّما نعود إليها في قراءات لاحقة، يمكن أن نستمع منها إلى رجع صدى لخطاب "جون كينيدي".
يصف "نايجل هاملتون" خطاب كينيدي والذي كتبه له مساعدُه "تيد سورينسين" بأنّه كان الأفضل من نوعه في تاريخ البلاد برُمَّتها، ففيه أعلن كينيدي بصوته الواثق والرجوليّ ما يمكننا أن نطلق عليه "خطابًا تصالحيًّا وتسامحيًّا"، يليق بأُمّة عظيمة وكبرى وذات رسالة إنسانيّة تتَّسق ورؤية ويلسون ومبادئه.
يومها قال كينيدي: "فليسمع الأصدقاء والأعداء على السواء الكلام الذي أقوله من علياء هذا المنبر وفي هذا الوقت، إن الشعلة انتقلت إلى جيل أمريكيّ جديد، وُلِدَ في هذا العصر واستقى دروسًا صعبة من خلال الحرب وتعلَّمَ الانضباط من السلام المُرّ الذي أحلّه بصعوبة".
لقد وصف كينيدي ذاك الجيل بأنه "جيل فخور بميراثنا العتيق وغير مستعدّ للشهادة على سقوط حقوق الإنسان تدريجيًّا أو السماح به. وهي التي لطالما التزمها البلد والتي نلتزمها اليوم على النطاقين المحلّيّ والعالميّ".
كان خطاب كينيدي "مانيفستو" لرئاسة في عمق الحرب الباردة، ومع ذلك لم يعمد إلى اللغة الخشبيّة، لغة التهديد والوعيد، والإنذار والتحذير، بل استخدم لسانًا حكيمًا حين قال: "لتعرف كلّ أمّة، أكانت تتمنّى لنا الخير أم الشرّ، أننا مستعدّون لدفع أيّ ثمن وتَحَمُّل أيّ عبء ومواجهة أي مصاعب ودعم أيّ صديق والتصدّي لأيّ عدو بغية ضمان استمراريّة الحرية ونجاحها".
في ذلك النهار، كانت المرة الأولى التي ينقل فيها خطاب تنصيب الرئيس الأمريكيّ على التلفزة العالميّة، ليراه العالم برُمَّته، وقد التفتت إليه الأنظار من قارّات الأرض الستّ، إذ وجدوا فيه قائدًا جديدًا على رأس الإمبراطوريّة الأمريكيّة.
بعد بضعة أسابيع من خطاب التنصيب، وفي آذار مارس 1961 حقَّقَ كينيدي أوّل إنجاز لإدارته الجديدة، وهو تأسيس "فرق السلام"، البرنامج التطوّعيّ لإرسال الشباب الأمريكيّ إلى الخارج لمساعدة بلدان العالم الثالث خصوصًا، وبذلك استفاد الرئيس الجديد من الحسّ المثاليّ الذي كان يتمتّع به الجيل الأمريكي الشابّ في ذلك الوقت.
جسّدت فرق السلام أفضل عنصر وأكثره إلهاما في شخصيّة الرئيس الجديد في واشنطن، بحيث غَدَا البيت الأبيض بسرعة من خلال أعضائه الجدد "الأفضل والألمع"، على غرار وزير الدفاع "روبرت ماكنمارا" الرئيس السابق لشركة سيارات فورد، ومستشار الأمن القوميّ "ماك جورج بوندي"، العميد السابق والأصغر في التاريخ لجامعة هارفارد.
من ناحية أخرى، كانت السيِّدة الأولى قد ولدتْ صبيًّا توًّا، بالإضافة إلى ابنتهما كارولين، فتحولت الأسرة المؤلَّفة من أربعة أفراد إلى حضانة ساحرة، فانجذبت الصحف إلى هذه الصورة التي تمّ تشبيهها في ما بعد بـ"الكاميلوت" الحديثة، أي أنّ البيت الأبيض أضحى نظيرًا لقلعة وبلاط الملك الإنجليزيّ الأسطوريّ "آرثر".
كينيدي، وعن حقّ، كان آخر القياصرة الأمريكيّين العظام، وقراءة سيرته ومسيرته تخبرنا أنّه إذا أراد الأمريكيّون الحفاظ على إمبراطوريّتهم أن يأتوا بمثله إن قُدِّرَ لهم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة