لعل العنوان صادم بعض الشيء.. إذ كيف للولايات المتحدة الأمريكية أن تعاني من محنة كبرى؟
وأي قوة على وجه الأرض يمكنها أن تُدخل أمريكا، مالئة الدنيا وشاغلة الناس، في مثل تلك الأجواء المخيفة، هذا بالطبع إذا خلّينا جانبا حربا نووية، لا نصر فيها ولا هزيمة؟
في واقع الحال، وربما من عجائب المصائر والأقدار، أن المحن الكبرى التي تصيب الكيانات البشرية الضخمة والحضارات العظيمة، عادة ما تكون داخلية، بمعنى أن الإمبراطوريات والممالك تُخرّب من داخلها، وليس من خارجها، وعند علماء الاجتماع والمؤرخين تفسيراتٌ متباينة، ربما ليس هنا مقام تفصيل الكلام عنها، وإنما عن ما يجري في الداخل الأمريكي.
تقوى الأمم وتزدهر، كلما اشتد تآزر مواطنيها وتضامنهم، وهذا بالتحديد ما جعل من الولايات المتحدة قوة عظمى، وذلك عبر مفهوم "بوتقة الانصهار "، غير أن واقع ملايين الأمريكيين اليوم يُنافي ويُجافي تلك الحقيقة.
مؤخرا وبعد جلسات عدة أجرتها لجنة التحقيق النيابية في حادث الهجوم على مبنى الكونجرس الأمريكي، في السادس من يناير عام 2020 وقبل أسبوعين من تسليم السلطة لجوزيف بايدن، تكلم الرئيس السابق دونالد ترامب، مشيرا إلى أن روح الانتقام التي تجري بها المحاكمة حُكمًا ستقود البلاد إلى الهاوية.
عبارة ترامب ليست سطحية ولا عرضية، وإنما وراءها مخاوف جذرية، الجميع يتحسَّب لها، سيما وأن الرجل يكاد يضحي عرّاب أعضاء الكونجرس من النواب والشيوخ، المُقدمين على اختبار إعادة الانتخاب النصفي في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، الأمر الذي تُفهم منه مخططاته لانتخابات الرئاسة 2024.
المحنة الكبرى، التي نحن بصددها، مردُّها العنف الخطير الواقف وراء الأبواب الأمريكية، والمدفوع بنوازل الأعوام الثلاثة الأخيرة، ما بين الجائحة والكساد والركود وارتفاع أسعار الطاقة، وقبل هذه جميعها، انقسام الأمريكيين حتى الساعة حول نتيجة انتخابات الرئاسة 2020، والقول بأن الدولة العميقة زوَّرتْها لصالح "بايدن"، وبهدف الخلاص من ترامب، القادم من خارج المؤسسة السياسية الأمريكية التقليدية.
في الأسبوع الأخير من شهر يوليو/تموز المنصرم، لفتت صحيفة "ديلي ميل" إلى تقرير أعده باحثون في جامعة كاليفورنيا ديفيس، يحمل نُذُرًا مثيرة للهلع وليس للقلق، لا سيما أن مستويات "الشعور بالغربة" و"عدم الثقة" و"الميل للعنف" تتصاعد بوتيرة كارثية في الأعوام الأخيرة في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية.
الطامة الكبرى، التي يخشى المفكرون الأمريكيون، وكبار الساسة، من أن تكون ساعتها قد أزفت، موصولة بالمواجهة التي لا مناص منها، بين حراس النظام الأمريكي، وبين خُدّامه، أي بين القلة التي لا تتجاوز 1% والتي تملك أكثر من 90% من الثروة، والبقية التي تقتات على الفتات، وباتت تشبه "أقنان الأرض"/فلّاحي الإقطاع، في زمن الإمبراطورية الروسية القيصرية.
يُظهر التقرير، والذي يقع في 42 صفحة، أن أكثر من ثُلُثي المستطلَعة آراؤهم يرون على مدى البصر "تهديدًا خطيرًا لديمقراطيتهم"، وفي هذه النتيجة رجْع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر للاتهامات التي لا تزال جذوتها مشتعلة بعد خَيْبات انتخابات 2020 الرئاسية، والتي اعتُبرت إخفاقًا تاريخيًّا في مسارات الديمقراطية الأمريكية.
في تفصيلات التقرير، نجد أن 50.1% من الأمريكيين الذين شملهم الاستطلاع، يشملهم فكر وتوجه واحد لجهة أن الجمهورية الأمريكية مقبلة من جديد على حرب أهلية في السنوات القليلة القادمة، ولعل مثل تلك الأرقام تلفت، ولو من طرف خفي، إلى الجهود الحثيثة التي تقوم بها الحكومة الاتحادية بهدف جمع الأسلحة المتوافرة بكثرة وغزارة بين أيدي الأمريكيين، وربما على أمل تضييق فرصة الاقتتال الداخلي والصراع الأهلي المتوقع.
لم تعد عقلية الحوار والجوار، والبناء المؤسساتي، هي المسيطرة على غالبية الأمريكيين، بحسب التقرير الأخير، وهنا تتجلّى الكارثة وليس الحادثة، إذ تحل عقلية استخدام الأسلحة النارية محل الطروحات السابقة تجاه تسوية النزاعات السياسية في السنوات المقبلة، وهذا ما يتحسَّب له الكثيرون في القريب العاجل، وعلى عتبات الكونجرس القادم.
أكثر ما يخيف إلى درجة الهول الأعظم في تقرير جامعة كاليفورنيا، كشفه عن بعض الحقائق القاتلة لتماسك المجتمع الأمريكي الداخلي، مثل شعور ملايين الأمريكيين بالغربة ومعاناتهم من الاغتراب في داخل بلادهم، وبعضهم ربما لم يغادر مسقط رأسه، عطفًا على حالة عامة من انعدام الثقة داخل المجتمع الأمريكي برمته، ومؤسساته السياسية والمالية بنوع خاص.
هل لهذه البيانات عَلاقة ما بالتوزيع الديموغرافي لسكان أمريكا في الوقت الراهن؟
مؤكد أن هناك علاقة سببية ما بين الجانبين، إذ أعرب نحو 40% من الفئة المستطلعة آراؤها -وتبلغ نحو 8620 فرد من مختلف الولايات- أن "المهاجرين يقومون بعملية إزاحة للسكان البيض"، وهو المفهوم عينه الذي راج في القارة الأوروبية من سنوات، وعُرف باسم "نظرية الاستبدال العظيم"، والمنسوبة للفرنسي "رينو كامو"، وقد خلّفت ولا تزال وراءها إرثًا كبيرًا من الإفساد الفكري المجتمعي.
في هذه الأجواء تُضحي صحوات الجماعات القومية اليمينية الأمريكية أمرًا طبيعيا ومفهوما، وتصبح المواجهات العنيفة طريقًا طبيعيًّا بعد فِقدان المقدرة على الحوار العقلاني، فيما الطامة الكبرى والتي يتوجس منها العقلاء، أن تتسرب تلك الدعوات إلى داخل القوات المسلحة الأمريكية، وهنا لن يكون الأمر كارثيًّا على المستوى الأمريكي فحسب، بل على العالم برمته، وبخاصة حال وقوع صراع قوى داخلية تمتلك أسلحة نووية فتاكة، كفيلة بإبادة العالم مراتٍ عدة لا مرة واحدة.
والشاهد أنه لم يكن تقرير كاليفورنيا وحده مبعث الخوف من زمن "المحنة الأمريكية الكبرى"، فقد أظهرت دراسة مماثلة أجراها مركز "تولشين" للأبحاث ومركز مكافحة الفقر، أن 44% من الأمريكيين يرون أن بلادهم "ماضية في طريق الحرب الأهلية لا شك".
أضف إلى ما تقدم، مطالبة ثلث أنصار الرئيس السابق ترامب، أي نحو 25 مليون أمريكي، بانفصال ولاياتهم عن الاتحاد، وقولهم إنهم "سيكونون في وضع أفضل"، والعهدة على استطلاع "يوجوف" قبل أسبوعين.
هل هو زمن المحنة الكبرى لأمريكا؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة