ما يعيشه المحافظون في بريطانيا اليوم، من تغيير لقيادة الحزب والحكومة، تتردد أصداؤه بين صفوف المعارضة العمالية.
ليس لهفةً إلى انتخاب امرأة أو نائب من أقلية عرقية لرئاسة الحزب، وإنما استجابة لرغبة متزايدة بين قيادات وأعضاء الحزب في تغيير زعيم "العمال"، كير ستارمر، قبل الانتخابات العامة في 2024.
ويمثل "ستارمر" تيار وسط اليمين في حزب "العمال"، لذلك ابتعد الحزب في عهده عن "الاشتراكية"، التي شهدها في زمن سلفه جيرمي كوربين.
يشبه "ستارمر" في سياساته الزعيم البريطاني الأسبق، توني بلير، الذي قاد "العمال" والدولة لعشر سنوات متتالية بين 1997 و2007.. لكن "ستارمر" لا يملك شخصية "بلير" القيادية، كما لا يوجد ما يثبت أن أفكار ورؤى "بلير" تصلح لكل زمان ومكان، أو هي وصفة سحرية للفوز بالسلطة.
يؤخذ على "ستارمر"، من قبل نسبة متزايدة من "العمال" اليوم، أنه لم يستفد من أخطاء بوريس جونسون وحكومته بالشكل المطلوب، ولم يستثمر "فضائح الحفلات"، التي تورط بها "جونسون" وما تلاها من أحداث، بالقدر الكافي. حتى إن بعض الناقمين على "ستارمر" كانوا يأملون تغريمه لمخالفة قوانين الإغلاق، كما حدث مع "جونسون"، فيُجبَر على الاستقالة التي تعهد بها أمام البرلمان البريطاني إن ثبت عليه "الجُرم".
رفْضُ "ستارمر" لتأييد الاحتجاجات والإضرابات العمالية، التي تشهدها البلاد منذ بداية العام، خلق تباعدًا واضحًا بين الحزب وقاعدته الشعبية من جهة، وبينه وبين الاتحادات العمالية من جهة أخرى.. وقد ظهر ذلك بوضوح عند إقالة الحزب وزير النقل في حكومة الظل، سام تاري، بسبب مشاركته في اعتصام السكك الحديدية الأخير.
حاول المتحدث باسم حزب "العمال" تبرير إقالة "تاري" بشكل يمتص الرفض النقابي للخطوة، ولكن الوزير المُقال تحدث علنا في إذاعة محلية عن التباين، الذي يعيشه الحزب إزاء ما يجري من إضرابات، كما أن الأمين العام لاتحاد النقل قال إن "ما يقوم به ستارمر مخجل"، و"إقالة تاري أحدثت شقاقا بين الاتحاد والحزب المعارض".
تحمل الاتحادات العمالية في جَعبتها مفتاح تغيير قيادة "العمال" لأنها تشارك في عملية التصويت على زعيم الحزب، ولكن الأمر لن يكون سهلا بسبب الآلية المعقدة لذلك، كما أن الأمر قد يستغرق بين ستة أشهر وعام كامل، كي تخوض التيارات المعارضة لـ"ستارمر" معركة مع مؤيديه داخل الحزب، ويتم التوصل إلى بديل توافقي.
الطريق الأسرع هو إقناع حكومة الظل لزعيم حزب "العمال" بالاستقالة، ولكن هل من بديل له يمكن اختياره من بين وزراء الظل أو غيرهم من نواب الحزب في مجلس العموم؟، هل هناك من يفوق "ستارمر" في "الكاريزما" القيادية ويمكنه الحفاظ على التوافق المقبول بين أجنحة الحزب بكل درجاتها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار؟
يمثل "العمال" في البرلمان مئتا نائب، بينهم مئة وثماني نائبات وواحد وأربعون رجلا ينتمون إلى أقليات عرقية، ولكن هل من صالح الحزب الدفع بشخصية غير مناسبة، فقط كي يثبت أنه لا يعارض وصول امرأة إلى قيادته، أو أنه أكثر انفتاحا على الأقليات العرقية من خصمه حزب المحافظين الحاكم؟ خاصة أن أعضاء الحزب هم في نهاية المطاف جزء من المجتمع البريطاني، ولا أحد يضمن مدى انفتاحهم على الخيارين.
"العمال" البريطاني واحد من أكبر أحزاب أوروبا في عدد الأعضاء.. ثمة نحو نصف مليون بريطاني ينتمون إليه، وفق بيانات مارس عام 2021.. وكثير جدا من هؤلاء ينتمون إلى أقليات عرقية ودينية، تتباين أسباب ولائهم للحزب المعارض.. وعلى الرغم من ذلك لم يعرف "العمال" طوال تاريخهم زعيمًا من غير أصحاب البشرة البيضاء.
يبلغ عمر حزب "العمال" أكثر من مئة وعشرين عامًا.. عيّن أول بريطانية في منصب وزيرة الخارجية عام 2006، ولكن الزعامة النسائية لم يعرفها الحزب إلا في مرحلتين انتقاليتين، الأولى كانت من نصيب مارجريت بيكيت، وامتدت لشهرين بين استقالة جون سميث وقدوم توني بلير عام 1994.. والثانية كانت بطلتها هارييت هيرمان، واستمرت أربعة أشهر بين استقالة جوردون براون وزعامة إد ميلباند عام 2010.
النقمة على "ستارمر" بدت واضحة في موقف "اتحدوا"، أكبر نقابة عمالية في البلاد، عندما هددت مؤخرا بوقف تبرعها بنحو مليون جنيه إسترليني للحزب سنويا، إنْ لم يقم "ستارمر" بتأييد الاعتصامات والإضرابات في البلاد.
رئيسة النقابة شارون جراهام تقول في مقابلة صحفية إنها إنْ أغمضت عينيها واستمعت إلى خطابات كير ستارمر، فلا تستطيع التمييز أحيانا إنْ كان ستارمر زعيما لحزب العمال أم المحافظين.
ربما يُفهم موقف "اتحدوا" على ضوء الخطاب، الذي ألقاه "ستارمر" مؤخرا، والذي أعلن فيه عن خطط حزبه لإدارة الاقتصاد الوطني عندما يبلغ السلطة.. قال إنه يريد نمو الاقتصاد مع ضمان عدالة الأجور والمعيشة الكريمة للعمال.. ولكنه لم يقل إنه مستعد لتغيير سياساته إزاء ما تشهده البلاد من احتجاجات بسبب ارتفاع الأسعار.. ولم يقل أيضًا إنه يريد التأميم، بل شدد على أهمية الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص.
قد تُدفن فكرة استبدال "ستارمر" داخل الحزب والنقابات العمالية بعد اختيار "المحافظين" رئيس الوزراء الجديد في سبتمبر المقبل.. ولكن موت الفكرة لن يقود "العمال" إلى التوحد خلف زعيمهم في انتخابات عام 2024، إلا إنْ أثبت للجميع أنه ليس مجرد نسخة من "بلير"، وسياساته لا تتماهى مع أفكار الحزب الحاكم إلى حدود التطابق.. فالناخب البريطاني لن يفضل نسخة غير أصلية، ولن يصوت لأفكار مقلدة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة