الفائدة الأمريكية والأسواق الناشئة.. ضباب مالي أم تصحيح موضوعي؟
في 1971 أوقف الرئيس الأمريكي قاعدة الذهب، عند ظهور أول عجز في الميزان التجاري الأمريكي، وجعل الدولار عملة التسوية العالمية
وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قرارات البنك الفيدرالي برفع الفائدة ضمن ما يعرف بسياسة التشديد النقدي - وآخرها الأربعاء 19 ديسمبر/ كانون أول 2018 بواقع ربع نقطة مئوية - بأنه جنون، وكرر الوصف.
وخلال إحدى جولاته السياسية منذ أشهر، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أمام جماهير حزبه: "إيماني هو: أسعار الفائدة هي الأم وأب كل الشرور".
وفي مقال افتتاحي في 2 أكتوبر/ تشرين أول الماضي، وصف موقع "جوابان" الإيراني المرتبط بالحرس الثوري، الدولار، بأنه "مهرج.. لم يؤد تقلبه إلا إلى الترفيه عن السوق وإبكاء الجماهير".
والعلاقة شرطية، كما نعلم، بين ارتفاع الفائدة وزيادة قوة الدولار.
فأي وصف يا ترى يمكن أن ينطبق على السياسة النقدية في الولايات المتحدة حاليا، خاصة من منظور الأسواق الناشئة؟
في 1971 أوقف الرئيس الأمريكي قاعدة الذهب، عند ظهور أول عجز في الميزان التجاري الأمريكي، وجعل الدولار- عملة التسوية العالمية - هو احتياطي ذاته، لكن هذا الوضع وصل إلى لحظة تأزم منذ 2008، جعلت التفكير في إيجاد بدائل للدولار يصبح علنيا.
وحيال وضع كهذا لم يكن هناك مفر من أن يضع المركزي الأمريكي – ولا أقول الدولة الأمريكية - نصب عينيه الحفاظ على مكانة الدولار كأهم أهداف، ليس فقط السياسة النقدية أو الاقتصادية، ولكن الاستراتيجية للولايات المتحدة، حتى لو أدى ذلك لتأثير سلبي على بعض الصادرات الأمريكية.
ومن هنا، وبعد أن فعلت دورة التيسير النقدي فعلها بانتشال الاقتصاد الإمريكي من عثرته بعد الأزمة المالية العالمية، بدأ الفيدرالي دورة تشديد نقدي، أي رفع الفائدة منذ ثلاث سنوات، وسيواصل في 2019 لمرتين أو ثلاث، وفق التوقعات المتباينة للمحللين.
التشديد يهدف للحفاظ على قوة العملة، مدعوما بعوامل مواتية فيما يخص التضخم الذي يستهدف وصوله إلى 2% والبطالة المتوقع لها 3.5%، والنمو الذي بلغ 3% وسيظل قويا في 2019 ولكن بمعدل أقل.
رفع الفائدة كان الرابع في 2018، وقد تم القرار الأخير بالإجماع برغم تهديد الرئيس الأمريكي المستبق وغير المسبوق للفيدرالي ومحافظه.
ولم يكن هبوط "وول ستريت" أيضا عقب القرار هو الأول من نوعه، فقد كشفت كتابات مكثفة من كبار اقتصاديي العالم في سبتمبر/ أيلول الماضى وفي مناسبة مرور عشر سنوات على إفلاس "ليمان براذرز"، كيف أن هناك فقاعة واضحة فى أسعار الأسهم الأمريكية وفي أسواق ناشئة.
وقد انخفضت الأسواق بشدة يوم 6 فبراير 2018 على سبيل المثال، وفقد "داو جونز" الصناعي نحو 4.6% في أسوأ هبوط له منذ 2008 والذي جرى بعد رفض الكونجرس خطة إنقاذ الاقتصاد بـ700 مليار دولار والتي عاد وقبلها لاحقا بتعديلات.
وشهد يوم 10 أكتوبر، تشرين أول الماضي أيضا ما عرف بأسوأ انخفاض لـ "وول ستريت" منذ 2008، ومعنى ذلك أن الأسواق لم تتفاجأ بالهبوط بعد قرار الأربعاء رفع الفائدة الأخير، الذى بلغ في مؤشر "ستاندر أند بورز" 500 وحدة، أكثر من 7%، وكل ما في الأمر أنه كانت قد تحققت مكاسب طوال أربعة أشهر متتالية بعد فوز ترامب بالرئاسة، ما اعتبره من إنجازاته، وعز عليه أن يرى التراجع، فانتقد السياسة النقدية، واستغلت الأسواق ذلك.
غير أن "جيروم باول" المحافظ الذي اختاره ترامب بنفسه، مضى إلى عمل ما يعتقد أنه الأصوب لبلاده وضمن الهدف الاستراتيجي الذي أشرت إليه، وإن كان بيان لجنة الفيدرالي عقب رفع الفائدة أوحى بشكل أو بآخر بأنه يمكن تسريع عودة التخفيف النقدي عما كان متوقعا من قبل.
ولقد قال جيروم باول، في مؤتمر صحفي، عقب رفع سعر الفائدة: كل الدول بما فيها الناشئة ستستفيد من النمو الأمريكي السليم.
لكن باول لم يوضح كيف ستتعامل الأسواق الناشئة مع ما جرى وما كان قبل أن يصبح النمو الأمريكى سليما، بالمناسبة فإن كارمن رينهارت، الأستاذة فى هارفارد، رأت منذ أيام أن أكبر مشكلة ديون فى أسواق ناشئة هي في أمريكا، وبالذات في شركاتها، ذات السندات، مرتفعة العائد، وتعتقد أن وول ستريت والأسواق تواطأت حول هذه الحقيقة.
وكما هو معلوم كان معهد التمويل الدولي قد كشف، خلال الأشهر الماضية، أن ديون الأسواق الناشئة قفزت لتصبح 63 تريليون دولار بنهاية 2017، بعد أن كانت 21 تريليونا في 2007 مع ارتفاع حاد في الديون القصيرة –والطويلة– في السنوات الأخيرة، كما قال البنك الدولي في تقريره، عن ديون العالم في 2017.
وبهذا المعنى، فإن ربع نقطة مئوية تعني حسابيا أكثر من 150 مليار دولار خسائر، ولا ننسى أن هذا هو تاسع رفع منذ 2015.
عمليا فإن تركيا -وهي مثال لسوق ناشئة- كانت قد بدأت تعرف عمق الخلل في ميزان المدفوعات مع التباطؤ في الاتحاد الأوروبى بعد 2008 – شريكها التجاري والاستثماري الرئيس – بعدها بدأت في البحث عن حل من خلال تسميم المنطقة بجماعات الإرهاب لتحقيق أي مكاسب تعوض الخلل، خاصة بعد فشل كل التسهيلات، التي تم تقديمها حتى 2012 لجذب الاستثمارت غير المباشرة.
الرئيس أردوغان، الذي أراد أن يعاكس كل منطق اقتصادي ويخفض سعر الفائدة، بينما التضخم ينفجر والسوق السوداء للعملة تنتعش، ظل يعاند ويعاند إلى أن قرر البنك المركزي منذ أشهر رفع الفائدة إلى نحو 24% بعد أن كانت العملة التركية قد فقدت نحو 40% من قيمتها.
ورغم ذلك، ما تزال التوقعات تشير إلى أن التضخم في تركيا سيظل مكونا من رقمين عشريين إلى 2020، وستظل الديون التركية، التي تدور حول 470 مليار دولار (البعض يرفعها إلى 500) مصدر خطر دائم على العملة التركية، وعلى المؤشرات الاقتصادية.
وقد يفسر ذلك المحاولات المحمومة لتحقيق أي مكاسب اقتصادية من خلال نهب موارد دول أخرى، أو ابتزاز الاتحاد الأوروبي أو مداعبة إسرائيل، أو حتى إغواء طالبي الوحدات العقارية الفاخرة بمنحهم الإقامة عند شراء عقار بقيمة معينة من النقد الأجنبي.
وبالطبع فإن أهم تأثير للرفع الأخير للفيدرالي على تركيا، سيقع في منطقة تكلفة الديون وقدرة الدولة والشركات هناك على الاقتراض أو حتى إعادة تمويل ديونها.
بلد آخر في الإقليم هو إيران، قام بتوحيد العملة في أبريل 2018، بعد أن بلغ الفارق بين سعر الصرف الرسمي والفعلي 1:4.
ما تزال العملة الإيرانية مرتبكة الأداء، وزادت العقوبات الأمريكية من أوجاعها، كان "سكوت لوكاس"، المتخصص فى الشؤون الإيرانية بجامعة برمنجهام في بريطانيا ورئيس تحرير موقع EA World View على الإنترنت، قد قال مطلع نوفمبر 2018: "حاولت الحكومة الإيرانية معالجة الريال بتكتيكات رفع أسعار الفائدة على المدخرات، وإعطاء تصاريح إقامة للأشخاص، الذين يجلبون العملة الأجنبية إلى البلاد، وإعادة هيكلة سوق الصرف الأجنبى.. ولكن إذا كنت لا تستطيع ضمان التجارة والاستثمار والإنتاج، فلا يمكنك الدفاع عن الريال".
فى مصر كان أبرز آثار التشديد النقدي الأمريكي هو انسحاب نحو 10 مليارت دولار من سوق أداوت الدين الحكومية والبورصة، ليصل رصيد الاستثمار غير المباشر في نهاية أكتوبر/ تشرين أول الماضي إلى 11 مليار دولار بعد 21 مليارا فى نهاية مارس الفائت، وتأجيل طرح حصص من 5 شركات حكومية كبيرة- كان مقررا طرحها باتفاق مع صندوق النقد- فى البورصة إلى حين تحسن الأسعار.
وبالطبع واصلت البورصة المصرية هبوطها للعوامل الخارجية التي ذكرناها، ولبعض العوامل الداخلية مثل شح السيولة وارتفاع الفائدة المحلية.
لكن أهم ما أسفرت عنه توجهات السوق الأمريكية، هو تسريع وضع استراتيجية مصرية لإدارة الديون الخارجية، التي قاربت 100 مليار دولار (يقابلها احتياطى نحو 44.5 مليار دولار)، وهي خطوة يتابعها ويرعاها رئيس الدولة بنفسه.
بمقتضاها سيتم وضع سقف للاستدانة من الخارج وتنويع السندات الدولية، لتشمل إصدارات باليوان والين، وإطالة آجال الإصدارات، جنبا إلى جنب مع تعظيم الإنتاج المحلي وزيادة الصادرات والسياحة والاستثمار المباشر.
وفي الصين هناك، منذ أكثر من عام، تشديد من الحكومة على سياسة الائتمان بعد فترات سابقة من التوسع في الإقراض، ومحاولات للسيطرة على تضخم سوق العقارات، وللحد من ارتفاع ديون الأسر، التى بلغت 110% من الدخل، وهى نسبة أعلى مما كانت عليه في الولايات المتحدة واليابان وفرنسا.
وقد أثّر هذا على نمط الاستهلاك للشعب الصيني، الذي كان من المفترض أن يدفع الاستهلاك العالمي، لكن يظل الأخطر هناك هو ديون الشركات -ومنها الكثير مما هو حكومي- والتي ستتعاظم قطعا مع رفع الفائدة.
من أجل ما تقدم، فإن "فوربس" الدولية قالت بعد قرار الفيدرالي، إن من النقاط الضعيفة التي يجب أن يبقى بنك الاحتياطي الفيدرالي عينه عليها، الصين، وداخليا قطاعات الإسكان، والطاقة، والزراعة ومنحنى عائد السندات الأمريكية.
وأضيف إليها مخاوف تراجع النمو في الاتحاد الأوروبي ومشاكل بعض دوله المالية والاقتصادية، بل والسياسية.
وطبقا لموقع "إنفستنج هافن" لا يتفق الجميع على أي الدول هي الأسواق الناشئة، ويصنف صندوق النقد الدولي 23 دولة على أنها أسواق ناشئة، وهناك تصنيفات أخرى.
إن أقوى الأسواق الناشئة هي الصين والهند، ويعيش هذان البلدان معا مع 40 في المائة من القوى العاملة والسكان في العالم.
وفى 2017، كان ناتجهما الاقتصادي المجمع (32.6 تريليون دولار)، أي أكبر من الاتحاد الأوروبي (20.9 تريليون دولار)، ومن الولايات المتحدة (19.4 تريليون دولار)، وذلك يكشف أن التأثير على مجريات الاقتصاد العالمي لا يأتي من أمريكا وحدها على ضخامة تداعيات ما تقوم به.
وفي تقرير أخير، لفتت "التايم" إلى أن السياسات الشعبوية كانت عنصرا حاسما في أزمات عدة دول، حيث اتجه قادة تركيا والأرجنتين وفنزويلا والمجر وبولندا وجنوب أفريقيا إلى تطبيق سياسات اقتصادية في السنوات الأخيرة أدت إلى تحقيق منافع سياسية قصيرة المدى مع خلق نقاط ضعف اقتصادية طويلة.
aXA6IDMuMTQ1LjUwLjcxIA==
جزيرة ام اند امز