سقف الدين الأمريكي.. إدمان سياسة "حافة الهاوية" يعجل بانتحار الدولار (تحليل)
على مدار أكثر من عقد، شكل "سقف الدين الأمريكي" أداة للمساومة والمكائد السياسية بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، رغم حساسية الأمر وخطورته التي تتجاوز واشنطن إلى كل عواصم العالم.
وينظر العالم بنفاد صبر إلى تلك الأزمة المفتعلة في واشنطن، خاصة مع تردي الوضع الاقتصاد الدولي أصلا، وهو ما يرجح أن التمادي في التعامل وفق سياسة "حافة الهاوية" لن يؤدي سوى إلى انتحار الدولار.
وحسب تحليل لمجلة "فورين أفيرز"، لطالما كانت أزمة سقف الديون أداة تفاوض بين الساسة الأمريكيين على مر السنوات وذلك للحصول على تنازلات "في اللحظة الأخيرة".
وفي عام 2011، نجت الولايات المتحدة من التخلف عن السداد قبل أيام قليلة فقط عقب التوصل إلى اتفاق بشأن زيادة سقف الديون.
ومنذ نجاح الحزب الجمهوري في السيطرة على مجلس النواب الأمريكي، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، تشهد السياسة الداخلية توترات متعددة آخرها مواجهة قد تؤدي إلى أزمة اقتصادية كبيرة.
أزمة عناد
رفض الجمهوريون زيادة سقف الديون الأمريكية الذي يعتبر تشريعا لزيادة حجم الأموال التي يمكن أن تقترضها واشنطن لدفع فواتيرها، ولم يوافق الرئيس الأمريكي جو بايدن على تخفيضات الإنفاق الكبيرة، والتي رفضها حتى الآن.
وأصبحت المواجهة ملحة بشكل متزايد، حيث وصلت الولايات المتحدة من الناحية الفنية إلى الحد الأقصى لسقف ديونها في يناير/كانون الثاني من العام الحالي والأدوات التي تستخدمها وزارة الخزانة الأمريكية لإبقاء الوضع في الحدود الآمنة لا يمكن أن تعمل لفترة أطول.
وإذا لم يتوصل الجمهوريون والديمقراطيون إلى اتفاق بحلول نهاية يونيو/حزيران قد تتخلف أمريكا عن السداد لأول مرة في التاريخ.
مصداقية الدولار "على المحك"
وتأثرت مصداقية العملة الأمريكية مع استمرار المواجهة وتراجعت قيمة الدولار.
ووفقًا للبيانات التي جمعتها الدراسة من صندوق النقد الدولي، فقد تأثرت الثقة بالدولار لتنخفض أيضًا احتياطيات الدولار الأمريكي التي تحتفظ بها البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم بشكل كبير ولذلك أصبحت المواجهة الحالية خطيرة بما فيه الكفاية لأنه من المحتمل أن يكون لها عواقب مماثلة.
وقد تكون المواجهة المتصاعدة أكثر ضررًا لأنه لا يوجد أبدا وقت مناسب للصعوبات الاقتصادية، لكن المأزق الحاد اليوم سيصيب الولايات المتحدة في وقت يتباطأ فيه الاقتصاد، ويسجل التضخم أعلى معدل في أربعة عقود، وقد وصلت أسعار الفائدة إلى أعلى مستوى لها منذ 15 عاما.
ونظرا لأن الولايات المتحدة هي أكبر اقتصاد في العالم، فمن شبه المؤكد أن أي أزمة تواجهها ستنتشر إلى دول أخرى. وبالتالي فإن التعثر في السداد أو المواجهة المطولة قد يؤدي إلى اضطراب اقتصادي حاد في جميع أنحاء العالم.
ولن يقتصر الضرر الناجم عن أزمة سقف الديون الخطيرة بالنسبة لواشنطن على الاقتصاد، لأن الولايات المتحدة تستمد قوة جيوسياسية هائلة من مكانة الدولار كعملة رائدة في العالم.
طباعة النقود
ونظرًا لأن معظم التجارة الدولية تتم بالدولار الأمريكي، يمكن للولايات المتحدة طباعة النقود لدفع ثمن السلع التي تشتريها من الخارج، مما يسمح لها بتمويل عجز تجاري دولي كبير دون الحاجة إلى القلق من نفاد النقد.
كما أن الاستخدام الواسع للدولار يجعل من السهل على واشنطن تنفيذ عقوبات فعالة، لأنه يمكن أن يعزل خصومها عن جزء كبير من النظام المالي العالمي ببساطة عن طريق تقييد وصولهم إلى الدولار.
ولكن أزمة سقف الديون الحادة يمكن أن تتسبب في توقف الكثير من العالم عن الوثوق بالعملة، مما يؤدي إلى تسريع نهاية تفوقها الدولي ومعها هذه الامتيازات، وهو ما سيؤدي بحسب تحليل فورين إفيرز إلى كارثة مذهلة تشمل إضعاف الاقتصاد الأمريكي وتقويض المكانة الدولية للولايات المتحدة.
الأهداف الخاصة
وتبدو قصة مواجهة سقف الدين مألوفة للغاية لأنه في نوفمبر/تشرين الثاني 2010 فاز الجمهوريون بالسيطرة على مجلس النواب الأمريكي وبعد فترة وجيزة، طالب الحزب الجمهوري الرئيس الأمريكي باراك أوباما بالموافقة على تخفيضات كبيرة في الإنفاق إذا أراد رفع حد الدين، لكن الديمقراطيين رفضوا التزحزح ولذلك أمضى الحزبان الأشهر الستة التالية في مباحثات مضنية حول كيفية الخروج من المأزق.
وتركت أزمة عام 2011 بصمة واضحة في الأسواق المالية العالمية، حيث انخفضت أسواق الأسهم العالمية بنسبة 7% خلال الفترة منذ بداية مايو/أيار وحتى نهاية الأزمة في يوليو/تموز.
وتراجع آنذاك أيضا الدولار الأمريكي بنسبة 4% مقابل الين الياباني و4.5% مقابل الجنيه الاسترليني وكان الانخفاض في الدولار الأمريكي كبيرا حتى مقابل عملات الأسواق الناشئة المحفوفة بالمخاطر تقليديا، وقد انخفضت قيمتها بنحو 2.5% مقابل اليوان الصيني.
وانخفضت الحصة العالمية من احتياطيات العملات الأجنبية المحتفظ بها بالدولار الأمريكي بنسبة 1.4% خلال هذه الفترة، وهو ما يمثل أكثر من 4 أضعاف متوسط الانخفاض السنوي منذ بداية الألفية.
ولم تتأثر الأسواق المالية من المواجهة الحالية لسقف الديون حتى الآن، ولكن في مرحلة لاحقة يمكن أن ترتفع أسعار الفائدة على سندات الخزانة الأمريكية لأنها ستصبح استثمارات أكثر خطورة.
ويمكن أن تؤدي هذه الزيادة في عائدات السندات إلى ارتفاع تكاليف التمويل في كل دول العالم، حيث إن السندات الأمريكية تعد الأصول الأكثر أمانا في العالم، وهي الأصول التي عادةً ما تحدد الأرضية لتكاليف الاقتراض، وبالتالي ترتفع تكاليف الإقراض في الدول الأخرى.
التخلف عن السداد
وفي عام 2011، خلال أزمة سقف الديون كانت تكاليف التمويل العالمية منخفضة بشكل عام، وكانت الأسواق الناشئة تتلقى كميات كبيرة من الاستثمار الدولي، أما خلال الفترة الحالية التي ارتفعت فيها أسعار الفائدة فمعظم الاقتصادات أصلا تواجه ظروفا مالية أكثر صرامة وصعوبة، فضلا عن تكاليف الاقتراض العالية وسط ارتفاع الديون السيادية إلى مستويات قياسية، الأمر الذي من شأنه تطور صدمة سندات الخزانة الأمريكية إلى موجة من التخلف عن السداد على مستوى الشركات والدول.
وقد تؤدي هزة في سندات الخزانة إلى تعريض مكانة الدولار الدولية للخطر بشكل أكبر، وهو الذي انخفضت بالفعل حصته في الاحتياطيات الدولية المودعة بالدولار بأكثر من 2٪ منذ نهاية أزمة سقف الديون عام 2011، حيث عملت العديد من البلدان على استخدام عملاتها على نطاق أوسع في المعاملات الدولية.
وأصبح النظام العالمي أكثر جرأة، وزادت واشنطن من استخدامها للعقوبات، مما دفع خصوم الولايات المتحدة إلى تجاوز نظام الدفع الدولي القائم على الدولار، حيث انتقلت الصين إلى مرحلة تدويل عملتها وشمل ذلك إبرام صفقة مع البرازيل لإجراء تجارة بعملتي البلدين.
ومن شأن مواجهة أخرى حادة بشأن سقف الديون في الولايات المتحدة، خاصة بالتخلف عن السداد، أن يساعد استراتيجية بكين.
خسارة صعبة
ولن يكون تقليص دور الدولار الأمريكي في النظام المالي الدولي أمرا سهلاً، باعتبار أنها العملة الاحتياطية العالمية المهيمنة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، ولا تزال تمثل حوالي 58% من احتياطيات البنوك المركزية.
ولقد اعتاد العالم منذ وقت طويل على استخدام الدولار في المدفوعات الدولية، ويعد حجم الاقتصاد الأمريكي واستقراره دليلا على أن الدولار ما يزال جذابا، كما لا يوجد بديل واضح.
ويعد اقتصاد الصين كبيرا أيضا، ومن الواضح أن بكين تعمل على ترويج عملتها، لكن اليوان يخضع لضوابط رأس المال التي تجعل امتلاكه واستبداله بعملات أخرى أمرا صعبا والتالي سوف يكافح اليوان ليصبح عالميا حقا.
وكذلك يعاني اليورو من مشاكل أخرى، حيث لا يستطيع معظم المستثمرين الاحتفاظ بسندات أوروبية صادرة عن الاتحاد الأوروبي لأنه يمكنهم فقط الاحتفاظ بالسندات الصادرة عن دول أوروبية فردية، وبالتالي صعوبة تكوين احتياطيات دولية.
لكن الدولار يمكن أن يفقد هيمنته حتى بدون تخلف عن سداد الدين، ويمكن للنظام الاقتصادي الدولي أن يفسح المجال لنظام العملات متعدد الأقطاب. وتستخدم الدول مجموعة متنوعة من العملات للتداول، بما في ذلك اقتصادات الدول النامية.
ويصبح مثل هذا النظام أكثر جاذبية إذا لم تعد الحكومة الأمريكية مستعدة للالتزام غير المشروط بسداد ديون الولايات المتحدة لأنه من خلال زيادة مخاطر امتلاك سندات الخزانة، التي تشكل احتياطيات الدولار الأمريكي، يمكن أن تكون أزمة سقف الديون الحادة هي العامل المحفز لمثل هذا التغيير.
وبالنسبة لأمريكا سيكون لهذا الأمر عواقب وخيمة، لأن التجارة الدولية تتم بالدولار في الغالب ولا تحتاج الولايات المتحدة إلى تكديس احتياطيات العملات الأجنبية. ومع ذلك تحتاج البنوك المركزية في كل مكان آخر إلى الدولار لتمويل وارداتها، وللقيام بذلك لديهم كميات كبيرة من سندات الخزانة الأمريكية، مما يقلل من تكاليف الاقتراض الأمريكية، وبالتالي فاستخدام الدولار على نطاق واسع في المعاملات الدولية يمنح الولايات المتحدة امتيازًا باهظًا للتداول والاقتراض بعملتها الخاصة بأسعار منخفضة، كما أنه يوفر للولايات المتحدة رافعة جيوسياسية قوية.
ويسمح اعتماد العالم على أنظمة الدفع بالدولار الأمريكي لواشنطن بفرض عقوبات أحادية الجانب على الدول الأخرى التي تسبب آثارا اقتصادية كبيرة، ولكن إذا تمكنت الدول من التعامل بسهولة بعملات أخرى فلن تكون واشنطن قادرة بمفردها على معاقبة خصومها بطريقة فعالة.
واختتم التقرير التأكيد أنه بالنظر إلى كل هذه العواقب سيكون من الممارسات الجيوسياسية الخاطئة أن يخاطر القادة في واشنطن بالتخلف عن السداد بسبب سقف الديون.
لكن البلد أكثر استقطابا الآن مما كان عليه في عام 2011، لا توجد فيه حتى الآن خطة واضحة لتجنب التخلف عن السداد.