اتَّسمت هذه الانتخابات بمعدلات مشاركة كبيرة، لسببين: الأول هو شعور الناخبين بأهمية نتائج هذه الانتخابات على حياة كل منهم. والسبب الثاني، نظام التصويت المبكر الذي اتُّبع فيها، ووسَّع من فرص تصويت الناخبين من خلال البريد.
سوف يقضي المعلقون والمحللون وقتاً طويلاً يبحثون فيه نتائج انتخابات الرئاسة الأمريكية التي تمت يوم الثلاثاء الماضي 3 نوفمبر 2020. اختلفت الاجتهادات أثناء الحملة الانتخابية التي امتدت لشهور، وخلال فترة فرز الأصوات والإعلان عن نتائج الولايات أولاً بأول ما بين مؤيد لهذا المرشح أو ذاك، ولكنها، أي الاجتهادات، اتفقت جميعاً على أنها تُعد من أكثر الانتخابات أهمية في التاريخ الأمريكي، وأن ما حدث فيها هو أمر فريد ولا سابق له.
فقد جرت هذه الانتخابات في مناخ من الاستقطاب السياسي والاجتماعي الذي تجاوز أشكال المنافسة التقليدية التي عرفتها الانتخابات السابقة، وأنها تمت وسط ارتفاع مؤشرات انتشار وباء كورونا بما خلَّفه من آثار اقتصادية واجتماعية وخيمة، وأنها تمت في عام سحب مجلس النواب الثقة من الرئيس، وأنها تمت في العام الذي شهد موجة عاتية من الاضطرابات السياسية والاجتماعية وخروج مئات الآلاف من المتظاهرين احتجاجاً على قسوة الشرطة في معاملة الأمريكيين من أصل أفريقي.
انفردت هذه الانتخابات بالمشاركة الفعالة للرئيس السابق باراك أوباما في حملة لتأييد نائبه السابق والمرشح بايدن وتوجيهه لانتقادات لاذعة إبان الحملة الانتخابية للرئيس ترامب. فقد كانت التقاليد المرعية تقضي بأنه، باستثناء إعلان التأييد لمرشح الحزب، فلا يقوم الرؤساء السابقون بالمشاركة النشطة في الحملات الانتخابية لمرشحي أحزابهم. ولعل أوباما كان يرد على النهج غير التقليدي الذي اتبعه الرئيس ترامب في توجيهه الانتقادات لسياسات سلفه وأحياناً بشكلٍ مُهين، وما قام به وزير الخارجية بومبيو الذي خالف عُرفاً سياسياً ودبلوماسياً ووجَّه انتقادات إلى سياسة أوباما الخارجية في خطابه الذي ألقاه بالجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 2019. فلم تجر العادة أن يوجه المسؤولون الأمريكيون انتقادات إلى من سبقوهم في تحمل المسؤولية.
اتَّسمت هذه الانتخابات بمعدلات مشاركة كبيرة، والتي تُعد من أعلى نسب التصويت في الانتخابات الرئاسية من بداية القرن العشرين. ويرجع ذلك إلى سببين: الأول هو شعور الناخبين بأهمية نتائج هذه الانتخابات على حياة كل منهم، وأنها مثَّلت خياراً واضحاً بين بديلين ومنهجين مختلفين في الحكم والإدارة. والسبب الثاني، نظام التصويت المبكر الذي اتُّبع فيها، ووسَّع من فرص تصويت الناخبين من خلال البريد لمن يرغب في ذلك بعد أن كان قاصراً من قبل على فئات محددة كالمسافرين والجنود على متن السفن الحربية والقواعد العسكرية الأمريكية في الخارج.
بل إن هناك ثلاث ولايات منعت التصويت حضورياً وجعلته بالكامل من خلال البريد. كما سُمح بفتح مراكز الاقتراع للتصويت حضورياً قبل يوم 3 نوفمبر. وكان تبرير نظام التصويت المبكر هو تحاشي الطوابير الطويلة والازدحام يوم الانتخابات. وترتب على هذا النظام أن حوالي 100 مليون ناخب أدلوا بأصواتهم قبل يوم الانتخابات، وهو ما يزيد على عدد المُصوتين يوم 3 نوفمبر.
وأدى نظام التصويت المبكر أيضاً إلى تشكيك البعض في نزاهة الانتخابات، والذين كان في مقدمتهم الرئيس ترامب نفسه، وهو أمر جديد تماماً، فلم يسبق من قبل أن شكك المرشحون للرئاسة في نتائجها سلفاً، فالثقافة السياسية الأمريكية تفخر بأنها تعطي حكم القانون الأولوية والسبق على كل شيء آخر. لذلك، فعندما أثار ترامب التساؤل حول نزاهة نتائج الانتخابات، فإن ذلك مثَّل صدمة لدى قطاعات كبيرة في الرأي العام الأمريكي. وزادت الصدمة بتصريحه أنه إذا خسر الانتخابات فإن ذلك يعني تزويرها بالضرورة، ولم يتعهد بقبوله نتائجها واستكمال إجراءات تداول السلطة بشكلٍ سلمي. وترددت أصوات في صفوف الحزب الجمهوري تحدثت عن المؤامرة التي تُحاك ضد ترامب وشككت في نزاهة العملية الانتخابية.
زاد من الجدل حول سلامة عملية الانتخابات ما تردد من تدخلات إيرانية وروسية للتأثير على توجهات الناخبين من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وأفاد رئيس وكالة المخابرات الوطنية بأن لديهم معلومات بأن روسيا قامت بجمع بيانات عن الناخبين، وأن إيران تدخلت بالفعل وأرسلت معلومات كاذبة وبيانات مضللة لأعداد من الناخبين، بل وحذر من احتمال هجمات سيبرانية، وحذر آخرون من عواقب اختراق دول أجنبية لنظم فرز الأصوات والتلاعب في نتائجها.
ودخلت شركات المعلومات الأمريكية الكبرى وأبرزها فيسبوك وتويتر على الخط وأعلنت قيامها بإجراءات لمنع تلاعب القوى الخارجية بالمعلومات واستخدامها للتأثير على نتائج الانتخابات. وكان من هذه الإجراءات إلغاء مئات الآلاف من الحسابات المشكوك فيها، وحذف الأخبار الكاذبة، وتفكيك حملات التضليل، ومنع بعض الإعلانات، ورصد الأنشطة الإلكترونية الأجنبية المعادية.
وكان من شأن كل ما تقدم ازدياد حدة الانقسامات السياسية والاجتماعية والتوسع في حجم مبيعات الأسلحة للأمريكيين الذين أرادوا حماية أنفسهم من أي اضطرابات قد تحدث بعد إعلان نتائج الانتخابات. في هذا السياق، أصدر مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية الشهير التابع لجامعة جون هوبكنز تقريراً عن الانتخابات، استخدم فيه تعبير "عودة الحرب إلى الوطن" نبَّه فيه إلى خطر تصاعد أنشطة "الإرهاب المحلي" في ضوء أنه خلال الفترة من يناير إلى أغسطس عام 2020 وقعت 61 حالة عنف واستخدام للسلاح شارك فيها أفراد من العنصريين البيض واليمين المتطرف.
انتهيتُ من كتابة هذه السطور قبل أن يتم إعلان النتائج الرسمية للانتخابات، وأياً كان الفائز فإنه سوف يتعامل مع مجتمع مُنقسم على نفسه يواجه نتائج أحداث سنة عصيبة وانتخابات رئاسية مُرهقة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة