تبدو غالبية إن لم تكن كل دول أوربا مدعوة لمراجعة علاقات الدول المحفزة على التطرف ، لا سيما قطر وتركيا.
وسط أصوات الرصاص وزخات الأسلحة الآلية للمهاجمين الذين ارتكبوا جريمة نكراء في حق مواطنين أبرياء في العاصمة النمساوية فيينا، وذلك قبل بضعة أيام، خيل للناظر أن دعوات الكراهية سوف تسود الجميع، والرغبة في الانتقام ستعم النمساويين بنوع خاص، وبقية الأوربيين، الذين لم يستفيقوا بعد في ليون، ونيس في فرنسا، بشكل عام.
كان للمرء أن يتفهم هذه الأصوات إذا ارتفعت، بوصفها ردات فعل طبيعية على هذا الحادث الإرهابي، الذي لا تبرره شريعة إلهية أو وضعية.
غير أن المفاجأة التي أدهشت غالبية المراقبين للساحة النمساوية والأوروبية، تمثلت في العقلاء والحكماء الذين تناولوا الأمر، وبنوع متميز رجال الدين، من المسيحيين والمسلمين، أولئك الذين أدركوا حاجة العالم الحقيقية إلى رجال إطفاء حرائق من جهة، وبناة جسور من ناحية أخرى.
هل أتاك حديث الكاردينال "كريستوف شونبورن"، رئيس أساقفة النمسا، والرجل المرشح لمنصب البابوية؟
في أكثر من حديث متلفز، لعدد من المحطات الأوروبية، وعبر تغريدات، على تويتر، كتب يقول: "يجب ألا تكون الكراهية هي الرد على هذه الكراهية العمياء، كما يجب ألا تصبح النمسا مجتمعا منغلقا في الخوف، وإنما يجب أن نستمر في الانفتاح على الآخرين".
كان يمكن لكاردينال النمسا أن ينادي بتطبيق إجراءات طوارئ، أو الدعوة لقوانين استثنائية بحجة حماية البلاد والعباد، غير أن دعوات الحكمة تمثلت في تأكيده على أن وطنه يحتاج إلى مواصلة السير على طريق الجماعة والثقافة والرعاية، تلك القيم التي صاغت النمسا.
لماذا يتحدث الكاردينال شونبورن على هذا النحو المثير للتفكر والداعي لتدبر حادثة فيينا الإرهابية من كل الجوانب؟
قبل نحو أربعة أعوام كان لصاحب هذه السطور لقاء خاص مع الكاردينال النمساوي، وفيه تطرق الحديث إلى الذكريات الأليمة التي خلفتها الكراهية في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، لا سيما أن بلاده قد خضعت للحكم النازي، وبين الفاشية والنازية، انتشرت جائحة الكراهية في القلوب والعقول الأوروبية.
في هذا الإطار يؤكد الرجل على أنه ومن غير مقدرة حقيقية على الصفح والتسامح بين الأوروبيين أنفسهم، ما كان للاتحاد الأوروبي أن تقوم له قائمة، ولما استطاع الأوروبيون تاليا إسقاط جدار برلين، رمز التفرقة والانقسام، وبناء ألمانيا رمز الوحدة والانسجام.
حكمة الكاردينال الذي يقترب من الثمانين عاما، تتمثل في مواجهة الخوف من غير أن تكون المجابهة عاملا يقطع الطريق على الحياة، ولهذا يدعو الجميع لمواصلة السير معا في طريق الجماعة، متضامنين ومتحدين.
لم يكن لرئيس أساقفة النمسا أن يخرج عن الإطار الروحي والفلسفي للجالس سعيدا على كرسي ماربطرس في حاضرة الفاتيكان، البابا فرنسيس، سيما أنه تلقى برقية من الرجل ذي الثوب الأبيض تتحدث عن المحبة القادرة على إسكات صوت الكراهية.
أوكل فرنسيس في رسالته الضحايا إلى رحمة الله، ودعا الرب لأن يوقف العنف والكراهية، وأن يعزز التعايش السلمي في المجتمع.
في برقيته كذلك كان فرنسيس يذكر النمساويين، ومن قبلهم الفرنسيين، وإن شئت الدقة قل عموم الأوروبيين بأن السلام والأخوة في حاجة إلى تعزيز يوما تلو الآخر، ولعل من طالع رسالته البابوية الأخيرة "كلنا إخوة"، يدرك كيف أن الرجل مهموم ومحموم بأن يترك تراثا للأجيال القادمة يتمحور حول فكرة الأخوة الإنسانية، تلك الوثيقة التي انطلقت من على أرض الإمارات العربية المتحدة في فبراير/شباط من عام 2019، وبلغ مداها حدود المسكونة قاطبة.
أصوات الحكمة يجدها المرء في إطار مسجد روما الكبير، والذي صدر عنه بيان إدانة لهذه الفعلة النكراء، وقد اعتبر البيان أن هجوم النمسا عمل شيطاني يجب على المجتمعات المسلمة أن تدينه بدون أي تبرير، انطلاقا من أن "المسلمين مدعوون ليس فقط لمواجهة آثار هذه الجرائم؛ بل الالتزام بالقضاء على هذه الأعمال الشيطانية مسبقا، لحظة بذارها وتبرعمها".
الكلمات المهمة والحيوية السابقة لرجل يمثل الإسلام الوسطي المستنير، وضعت أياديها على الجرح الغائر في أوروبا المعاصرة من قبل بعض الأطراف الخارجية والداخلية.. كيف ذلك؟
يؤكد الأمين العام للمركز الثقافي الإسلامي في إيطاليا الإمام "عبدالله رضوان"، على أنه "علينا حظر الغموض وازدواجية اللغة في خطابنا، ومن خطبنا ومن نصوص التنشئة المخصصة لأجيالنا الجديدة بشكل خاص".
كان لا بد لصوت الحكمة من أن يبرئ العقيدة من شر هذا الإرهاب، ولهذا وضح الإمام رضوان كيف أن الإسلام قد حرم الغضب دائما، ومنع إلحاق الأذى بأي نفس بشرية، لأن النفوس ملك لله جميعا، من دون تفرقة بين طائفة وأخرى، أو بين دين وآخر.
وفي السياق التحليلي لردات الفعل الأوروبي لا بد لنا من التوقف أمام التصريحات التي صدرت عن المونسنيور "ماريو مييني" رئيس مجلس أساقفة إيطاليا، والذي أدان ثقافة الكراهية والأصولية بشدة، لكنه في الوقت ذاته شدد على أن "هناك يقينا مطلقا بأن قلة ما لا ولن تبدد ما سماه كنز التعاون الأخوي الثمين لغالبية كبرى من الناس بين مختلف الأديان، وكما يشهد لذلك كثير من الإخوة المسلمين الذين أصابهم ما حدث في فرنسا والنمسا".
ولعله من الإغفال غير المبرر أن نتناسى تصريحات "سيباستيان كورتس"، مستشار النمسا الشاب، والذي تحدث بصوت الحكمة كذلك، حين أشار إلى أن أوروبا مدعوة لمحاربة الإسلام السياسي بتياراته التي تهدد الحرية في أوروبا.
تصريحات المستشار النمساوي في واقع الحال تضع الأوروبيين حكومات وأحزابا، هيئات مدنية وأفرادا، أمام حقيقة لم يعد هناك مجال لإنكارها وتمضي في طريقين:
أولا: أنه حان الوقت لأوروبا أن تراجع أخطاء الماضي، فهي تحت عناوين براقة وغير خلاقة من الحريات وحقوق الإنسان قد فتحت الباب واسعا للإرهابيين والقتلة الملوثة أياديهم بدماء الأبرياء في بلادهم، وها هم يعاودون الكرة على الأراضي الأوروبية من جديد.
ثانيا: تبدو غالبية إن لم تكن كل دول أوروبا مدعوة لمراجعة علاقات الدول المحفزة على التطرف، لا سيما قطر وتركيا، والرعاية المسبوغة من قبلهما على مؤسسات تربوية ودينية في الداخل الأوروبي، تلك التي أضحت حواضن للإرهاب في قلب أوروبا.
الخلاصة.. المودات قادرة على تجنيب العالم ويلات الكراهيات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة