التأكيد على عالمية اللغة وقدسيتها وحملها للهوية العربية، إنما هو ناتج من إشكالية النظر إلى الذات العربية وليس النظر إلى اللغة نفسها
خلال الأسبوع الماضي كان الاحتفال بعالمية اللغة العربية منتشرا في كثير من المؤسسات التعليمية والثقافية، في الجامعات السعودية والمدارس وإدارات التعليم والأندية الأدبية وغيرها، وهو احتفال ينم عن الاهتمام الرسمي باللغة العربية، لكنه في الحقيقة احتفال لا يتجاوز مفهوم الاحتفال لا أكثر، بمعنى أن العربية خارج هذه الاحتفالية تعود إلى وضعها الدارج، ليتحدث الناس بلهجاتهم المعروفة، وقد يتحدثون باللهجات أثناء الاحتفال، وهنا تكمن المفارقة في أن الحرص على الفصحى ليس إلا حرصا رسميا دون أن يكون شعبيا حقيقيا، والسبب ببساطة أن الفصحى خارج إطار التداول البسيط لدى الناس في كل نواحي حياتهم اليومية، ولذلك فاللغة الفصحى أو اللغة النحوية التي يحاول أن يؤكد على بقائها غالب المحتفلين، إنما هي لغة تاريخية وليست لغة يومية تداولية.
وأعتقد أن الخوف من اندثار الفصحى، هو خوف مبالغ فيه، لأن معظم ما يُكتب في الكتب والصحف والخطابات الرسمية إنما هي لغة فصيحة، لكنها بسيطة في فصاحتها، فهي متطورة كثيرا عن لغة بطون الكتب التراثية، وهذا أمر طبيعي لتطور الحياة، ولذلك نجد فجوة كبيرة بين اللغة التراثية أو التاريخية بنحوها الصارم، واللغة الفصحى البسيطة أو اللهجات في هذا العصر.
وفي تصوري، أن المحتفلين باللغة العربية إنما ينطلقون من تصور عام بعالميتها وقدسيتها، وأنها تمثل هوية للفرد العربي، وهذه التصورات الثلاثة: "العالمية والقدسية والهوية" إنما نشأت من علاقة اللغة العربية بالتراث من جهة، وبالنص المقدس من جهة أخرى.
هذه العلاقة التي يتصور البعض أنها علاقة وطيدة، ولا يمكن الفكاك منها، فبقاء العربية -في تصورهم- هو بقاء للموروث العربي أو النصوص المقدسة، وفي رأيي أن الحفاظ على هذه الأمور ليست له علاقة باللغة، فالموروث اليوناني مثلا بقي على مر العصور رغم اختلاف اللغة القديمة عن الحديثة في الغرب، والنصوص المقدسة في التوراة والإنجيل بقيت رغم اختلاف العصور حتى هذا اليوم رغم اختلاف اللغة التي كتبت بها التوراة والإنجيل عن اللغة المتداولة حديثا في غالب الدول الغربية.
فبقاء الموروث والنصوص المقدسة لا علاقة له ببقاء اللغة، وفي العربية بقيت النصوص المقدسة في القرآن والسنة رغم اختلاف اللغة بينها وبين لغتنا الحديثة حتى الفصحى منها، وكذلك بقيت الكتب التراثية موجودة رغم اختلافها عن لغتنا، فكتب الجاحظ مثلا ما زالت موجودة رغم أنه لا أحد يتكلم بمستوى اللغة التي كتب بها الجاحظ والتي كانت معروفة في وقته، وهذا يشمل غالب الكتب التراثية القديمة في التفسير والحديث واللغة والفلسفة والعلوم وغيرها.
ولو عدنا إلى التصورات الثلاثة: "العالمية والقدسية والهوية" التي يؤكد عليها المحتفلون، فإنه بشيء من التفكيك سنجد أنها تصورات غير ثابتة ومستقرة.
فعالمية العربية مثلا، ليست من الأمور المسلّم بها، فهي ليست من اللغات التي يتداولها معظم الدول، وربما كانت الإنجليزية أكثر انتشارا منها، ومعظم المسميات الحديثة حتى في التواصل الاجتماعي هي مسميات ليست عربية: "تويتر"، "فيسبوك"، "واتساب" وغيرها، أو حتى "الكمبيوتر" و"الكيبورد" الذي نكتب العربية خلاله ونؤكد على عالمية العربية خلالها، ليست مسميات عربية، كما أننا لا نحرص أن نسميها باسمها دون تعريبها، بل إن غالب جهود مجمع اللغة العربية لتعريب ما يستجد في اللغة لم تفلح في تغيير المسميات غير العربية للمنتجات العصرية.
أما عن تصور قدسية العربية، فإن فيه نوعا من الخلط بين تقديس اللغة وتقديس النصوص المقدسة ذاتها، فلأن النصوص المقدسة كانت باللغة العربية، فذلك لا يعني قدسية اللغة، لأن اللغة العربية أسبق من لغة النصوص المقدسة، ولو افترضنا قدسية اللغة العربية لكان من الضرورة تقديس الشعر الجاهلي، وتقديس كل قصائد الشعر العربي، بما فيها قصائد الخمريات والغزل بالغلمان الذي انتشر في العصر العباسي، ولا أعتقد أن أحدا يمكن له أن يقول بهذا الكلام، وعلى ذلك يجب التفريق بين النص المقدس واللغة، أو بين النصوص المقدسة كافة وبين اللغات التي كُتبت بها.
فالتأكيد على قدسية اللغة هو نوع من رفع اللغة إلى مرتبة لا يمكن المساس بها لأسباب أيديولوجية يطول الحديث حولها.
أما كون اللغة العربية هوية، فهذا يفترض أن اللغة جوهر، وهذا ما تخالفه الدراسات اللسانية الحديثة من أن اللغة اعتباطية تواصلية أو تداولية وليست جوهرية، وإلا لكانت اللغة واحدة في كل أنحاء العالم، ولو افترضنا هوية ثابتة للغة العربية، فإننا سنفترض لا محالة أن من يستخدمها للتواصل من غير العرب من الدول الشرقية أو الغربية، ستكون هويتهم العربية بالضرورة، وهذا ليس صحيحا، إذ تبقى الهوية عرقية وليست لغوية.
في رأيي أن التأكيد على عالمية اللغة وقدسيتها وحملها للهوية العربية، إنما هو ناتج من إشكالية النظر إلى الذات العربية وليس النظر إلى اللغة نفسها، بمعنى أن الذات العربية المأزومة في هذا العصر، تحاول تعزيز مكانتها خلال تعزيز مكانة لغتها، مع أن اللغة تابعة للتطور الفكري والإنساني وليست هي التي تطور الفكر والإنسان.
نعم، أعتز بلغتي العربية، ولا أخجل منها، وأتصور أن فيها من الجماليات اللغوية ما ليس في غيرها، ولكن لا أرفعها مكانة قدسية أعلى منها، وتطور اللغة وبقاؤها ليس ناتجا عنها، بل هو ناتج عن التطور الحضاري والثقافي والعلمي الذي يُخضِع اللغة كما يُخضِع غيرها إلى البحث والتفكيك والنقد والبناء، بوصفها من قضايا المتغيرات وليست من الثوابت.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة