في تفسير عداء أردوغان للنظام المصري ورئيسه
علاقة أردوغان بأحزاب الإسلام السياسي تعود إلى بدء اهتمامه بالسياسة والشأن العام
بدا واضحا أن رجب طيب أردوغان مزّق كثيرا من صوره القديمة حين كان يقدم نفسه للأتراك والشرق الأوسط والعالم، كأحد أبناء التيار الإسلامي المعتدل قبل أن تفضح تصرفاته عنصريته.
لا يختلف اثنان على أن الرئيس التركي أردوغان أحد أكثر ساسة العالم غزارة في الأحاديث والتصريحات، بل يحتفظ بقدرة "ثعبانية" فائقة على تغيير جلد مواقفه ومواقعه، ليتنقل من رأي إلى نقيضه دون حرج.
لكن المتابع لتصريحات (رجب أردوغان) يلاحظ الاتساق والاستمرار في مواقفه العدائية ضد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وسياساته، ولا يترك فرصة أو مناسبة دون أن يفصح عن هذه المشاعر.
ولعل أحدث مناسبة لتصريحات أردوغان العدائية، كانت في وفاة الرئيس المصري المعزول محمد مرسي، الذي كانت وفاته طبيعية خلال جلسة محاكمته يوم الإثنين 17 يونيو/حزيران الجاري، وفي وضح النهار والرجل بين رفقائه، إلا أن الرئيس التركي سارع بالحديث أمام اجتماع انتخابي لأنصاره في إسطنبول عن أن الوفاة "غير طبيعية".
ولم يكتفِ بذلك فحسب؛ بل تعهد بأن تركيا ستعمل على مقاضاة الحكومة المصرية أمام المحاكم الدولية، وانتقد الرئيس السيسي بعبارات شديدة اللهجة وبالغة العدائية؛ إذن.. كيف يمكن تفسير هذا الموقف العدائي؟
تعود بداية الخيط الأردوغاني لعداء السيسي، إلى يوليو/تموز 2013، والذي لا يزال مستمرا حتى اليوم، وخلال تلك السنوات الـ6 غيّر رجب طيب مواقفه من كل شيء تقريبا في كثير من المواقف، باستثناء كرهه لمصر.
تغيرت مواقفه تجاه روسيا وأمريكا، واستغل أحداث محاولة الانقلاب المزعوم في يوليو/تموز 2016، ليقوم بأكبر عملية اعتقالات ومحاكمات في تركيا، وتسريح لضباط وقضاة وموظفين، وإغلاق صحف، والانقلاب على أنصار حركة فتح الله غولن.
من هنا يمكن فهم موقف أردوغان الشخصي والسياسي في ضوء حقيقتين (الأولى) أنه ابن مخلص لتيار الإسلام السياسي في تركيا، مناصر لتنظيمات وفصائل هذا التيار في الشرق الأوسط، و(الثانية) أن الانتفاضة الشعبية في مصر، يونيو/حزيران 2013، وما تلاها من أحداث أفسدت "المخطط" أو "الطبخة"، التي عمل (رجب) على إعدادها لمدة 10 سنوات، ومن ثم فإن ما حدث في القاهرة لم يكن أمرا داخليا لكنه أصاب استراتيجيته الإقليمية بسهم قاتل.
بالعودة إلى الوراء، فإن علاقة أردوغان بأحزاب الإسلام السياسي تعود إلى بدء اهتمامه بالسياسة والشأن العام، حيث انتخب في عام 1976 رئيسا لتنظيم الشباب التابع لحزب الإنقاذ الوطني بمدينة إسطنبول -كبرى المدن التركية- وهو حزب إسلامي التوجه تم حله في الانقلاب العسكري عام 1980.
ثم نشط رجب طيب في حزب الرفاه الإسلامي، الذي أسسه نجم الدين أربكان عام 1983، وأصبح رئيسا لفرعه بإسطنبول، في العام التالي، وترقى ليصبح عضوا في اللجنة الإدارية للقرارات المركزية للحزب عام 1985، ثم انتخب رئيسا لبلدية إسطنبول في عام 1994 ممثلا للحزب.
وفي ديسمبر/كانون الأول 1997، اتُّهم أردوغان بالحض على الكراهية الدينية ففُصل من عمله، أما الحزب فقد تم حله بحُكم قضائي من المحكمة الدستورية لاتهامه بانتهاك مبادئ الدستور، وحكمت المحكمة عليه بالسجن لمدة 4 أشهر، وخرج بعدها لينشئ حزبا جديدا.
كان الدرس، الذي تعلمه أردوغان، هو أن أي حزب إسلامي مهما بلغت شعبيته لا يستطيع أن يناطح أو يتحدى سلطة الجيش، وفقا للدستور القائم، ورأى كيف تدخل الجيش والقضاء أكثر من مرة لإبعاد رئيس الوزارة عن منصبه وحل الأحزاب ذات الاتجاه الإسلامي؛ بل إنه تعرض شخصيا لهذا الأمر.
أراد أردوغان أن يبدأ صفحة حزبية وسياسية جديدة، وأن ينشئ حزبا يركز برنامجه على الجوانب الفنية والتكنوقراطية لحل مشاكل تركيا، وأن يتسم بالطابع العملي الواقعي، وفي سبيل ذلك جمع حوله مجموعة من أفضل العقول التركية لصياغة برنامج الحزب دون نظر للاعتبارات الأيديولوجية.
لم يكتف أردوغان بذلك فقط؛ بل تعمّد الابتعاد عن الأحزاب الإسلامية ليُقدم نفسه للجمهور في ثوب جديد، وبالفعل أسس حزب العدالة والتنمية في عام 2001، وانتخب رئيسا له وسرعان ما كسب الحزب تأييد قطاعات واسعة من الناخبين، فحصل على أغلبية ثلثي مقاعد البرلمان في انتخابات نوفمبر/كانون الثاني 2002.
فشل أردوغان في خوض هذه الانتخابات؛ بسبب الحكم القضائي الذي كان قد صدر ضده عام 1997؛ ما دفع البرلمان الذي سيطر عليه حزبه إلى إدخال تعديل تشريعي لإلغاء هذا الحائل القانوني، فرشح نفسه في دائرة مدينة سيرت، التي أعيدت الانتخابات فيها في مارس/آذار 2003، وبذلك أصبح عضوا في البرلمان، وحق له رئاسة الوزارة التي شكلها في الشهر نفسه، خلفا لعبدالله جول الذي شغل هذا المنصب بصورة مؤقتة.
وفي السنوات التالية، ركز أردوغان على إصلاح البيت التركي من الداخل، وبعث الحيوية في الاقتصاد. وإقليميا، سعى إلى تحسين العلاقة مع أغلب الدول العربية، والتي أثمرت في عام 2010 عن اقتراح الأمين العام لجامعة الدول العربية سابقا عمرو موسي في مؤتمر قمة سرت، مارس/آذار من العام نفسه، بإقامة علاقات مؤسسية خاصة مع دول الجوار العربي تبدأ بمنطقة جوار عربي-تركي على أن يليها فيما بعد منطقة جوار مع إيران وأفريقيا.
أطلق عمرو موسى تلك المبادرة في حضور رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان -قبل تغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي- إذ شارك في القمة العربية كمراقب وألقى كلمة فيها، وبالتزامن مع ذلك قدم نظامه إلى الولايات المتحدة والدول الغربية على أنه نموذج للإسلام الديمقراطي المعتدل، وكانت رسالته للعالم أن إيران ليست هي النموذج الصحيح عن الإسلام، وأن التنظيمات الإسلامية كانت تاريخيا في صف الولايات المتحدة والغرب في الصراع ضد الاتحاد السوفيتي إبان الحرب الباردة.
وارتبطت تلك الأفكار بتصورات أكبر عن دور تركيا القيادي في المنطقة، والتي صاغها وزير الخارجية التركي سابقا أحمد داود أوغلو في كتابه "العمق الاستراتيجي"، حين كان أحد أعمدة حزب أردوغان.
كانت رسالة أردوغان تبدو في ظاهرها جذابة واستطاع بها كسب ثقة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، الذي اعتبره صديقا له، وصرح مرة بأنه إذا واجهته مشكلة ما وكان عليه أن يتشاور مع 5 من زعماء العالم، فإن أردوغان هو أحدهم.
وتلاقت هذه الرسالة مع توجهات عدد من كبريات مركز البحوث الأمريكية، التي كان أبرزها مؤسسة "راند"، وتتالت الكتب والدراسات في العقد الأول من هذا القرن عن فضائل أحزاب "الإسلام الديمقراطي" و"الإسلام المعتدل"، وأن هذه الأحزاب ليست بالضرورة معادية للمصالح الأمريكية والغربية، وأنه يمكن العمل معها لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط.
وترافق ذلك مع القرار الأمريكي بفتح قنوات اتصال مع قيادات الإخوان الإرهابية في عام 2005، وتلقى أعضاء البرلمان المصري من الإخوان، آنذاك، دعوات متكررة لحضور المناسبات التي تنظمها السفارة الأمريكية؛ شأنهم في ذلك شأن بقية الأحزاب والتيارات السياسية، وحدث الشيء نفسه في بعض العواصم العربية الأخرى، حسب ظروفها.
ومع استمرار أردوغان على قمة السلطة لمدة عقد من الزمان، ازدادت رَغبته في الاستحواذ على كُل مفاصل السلطة فقام بتعديل الدستور وحول نظام الحكم إلى الشكل الرئاسي، وانتقل من منصب رئيس الوزراء إلى موقع رئيس الدولة، وبدأت انتماءاته القديمة في الظهور مرة أخرى.
وجاءت فرصة العمر لأردوغان في ديسمبر/كانون الأول 2010 ويناير/كانون الثاني 2011 مع اندلاع ما يُسمى بـ"الربيع العربي" في تونس ومصر، وأعقبتها تطورات مماثلة في ليبيا وسوريا واليمن، إذ أسرع (الخليفة المزعوم) لاستغلال تلك اللحظة التاريخية والاستفادة منها لصالح تصوره الاستراتيجي، وأدرك أن اللحظة أصبحت مواتية لصعود أحزاب وتنظيمات الإسلام السياسي، فأيد ما حدث في تونس ومصر من اللحظة الأولى، وطالب الرئيسين السابقين زين العابدين بن علي وحسني مبارك بالتنحي.
آنذاك، كان الرئيس التركي عبدالله جول ثاني مسؤول أجنبي بارز يزور مصر بعد رئيس الوزراء البريطاني، ووصف وزير خارجيته حينها (أوغلو) الزيارة بأنها تتيح لتركيا ومصر فرصة تاريخية لإقامة محور ديمقراطي، وفي سبتمبر/أيلول 2011 زار أردوغان مصر في جولة شملت أيضا ليبيا وتونس.
ورغم عمق الروابط التي جمعت تركيا وسوريا؛ فمع اندلاع المظاهرات غيرت أنقرة موقفها تدريجيا واستضافت قوى المعارضة، وتم الإعلان عن تأسيس المجلس الوطني السوري من إسطنبول برئاسة برهان غليون، كما سمحت بإقامة معسكرات لتدريب الجيش السوري الحر في أنطاكية بقيادة العقيد رياض الأسعد.
وفي أبريل/نيسان عام 2012، دعت تركيا مجلس الأمن للنظر في الأزمة السورية في ظل الباب السابع، الذي يسمح باستخدام القوة المسلحة، وعندما فشل هذا السعي أصبحت في السنوات التالية الممر الرئيسي لدعم المليشيات العسكرية، بما فيها تلك المُتطرفة والإرهابية ضد النظام السوري، وأحد المصادر الرئيسية لتمويلها وتدريبها وتزويدها بالسلاح واستقبال المُصابين منهم للعلاج في مُستشفياته.
كان تقدير أردوغان أن مرحلة الاضطراب وعدم الاستقرار التي رافقت تغير النظم السياسية ستخلق الفرصة المناسبة لأحزاب الإسلام السياسي بالصعود وتولي الحكم في الانتخابات، واستند هذا التقدير إلى عدة اعتبارات منها: صورة "المظلومية التاريخية" التي تعرضت لها تلك الأحزاب في ظل النظم السابق، والصورة الكاذبة بأنها فصيل ديمقراطي لا يسعى إلى الاستئثار بالسلطة أو الانفراد بها، وأن الولايات المتحدة والدول الغربية لا تعترض على وصولها إلى الحكم من خلال التنافس الانتخابي، وأنها تمتلك من الخبرة التنظيمية والمال ما يمكنها من حشد الانصار والمؤيدين.
وصدق تقديره، وحصدت أحزاب الإسلام السياسي على أغلبية مقاعد البرلمان في مصر وتونس، وتولت الحكم في المغرب والسودان وقطاع غزة، وازداد تأثيرها في الأردن وسوريا وليبيا واليمن، واعتقد أردوغان أن التنسيق في السياسات بين القاهرة -في ظل حكم الإخوان- وأنقرة يمثل ضغطا متزايدا على الدول العربية، وأنه وفقا لنظرية" الدومينو"، فإن النظم الحاكمة بالدول العربية ستسقط واحدة بعد الأخرى لصالح تيار الإسلام السياسي.
ظل هذا التصور مرافقا لأردوغان، ولم تكن الأحداث في عام 2012 والنصف الأول من 2013 بعيدة عنه؛ حيث ظهر وكأن التصور ينتقل إلى أرض الواقع، لذلك، فقد جاءت نهاية حكم الإخوان في يوليو/تموز من هذا العام بمثابة صدمة موجعة بل ضربة قاتلة له كرجل سياسي ولتطلعاته في الاضطلاع بدور قيادي له ولتركيا في الشرق الأوسط.
سرعان ما امتد تأثير ما حدث في مصر على تونس؛ فغيّر حزب حركة النهضة الإسلامي صاحب الأغلبية في البرلمان من موقفه، ولم يتشبث بحقه في أن يشغل أحد أعضائه منصب رئيس الوزراء وقبل بتشكيل وزارة تكنوقراطية في 9 يناير/كانون الثاني 2014؛ لكن تبين فيما بعد أنها مناورة وأن يوسف الشاهد رئيس الحكومة التونسية أحد أبرز الوجوه الإخوانية التي ترتدي قناعا مدنيا.
واستمرت حظوظ حركات الإسلام السياسي في الأفول، ووصم كثير من الدول العربية تنظيماته بالإرهاب وتراجع التأثير التركي في المنطقة وتعطلت أدوات القوة الناعمة لأنقرة؛ ما دفعها إلى مزيدٍ من استخدام الأداة العسكرية بشكل مباشر في سوريا والعراق وفي شرق البحر المتوسط تجاه قبرص، وبشكل دعم جماعات ومليشيات حركات الإسلام السياسي في ليبيا وسوريا.
على مدار السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين، تمسك أردوغان بتبني سياسة "تصفير الصراعات" أي حل المشاكل والصراعات مع الدول الأخرى حتى تصل تركيا إلى "صفر مشاكل"، وفي نهاية العقد الثاني من هذا القرن أوصلت سياساته بلاده إلى حالة "صفر الأصدقاء".. ويبقى السؤال الآن: ألا يكفي كُل ما تقدم لتفسير عداوة أردوغان للرئيس السيسي وللنظام المصري؟!
aXA6IDE4LjIyNi4yMDAuOTMg جزيرة ام اند امز