العقل المُعطل.. هل يقودنا الذكاء الاصطناعي نحو التبلد الذهني؟

يبدو أن التكنولوجيا لا تكتفي بمساعدتنا، بل بدأت تحل محل قدراتنا تدريجياً.
ففي قلب مختبر الوسائط المتقدمة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في مدينة كامبريدج الأمريكية، حيث تتجسد رؤى المستقبل في روبوتات صغيرة ومنحوتات خيالية صممتها نماذج الذكاء الاصطناعي، تظهر إشارات مقلقة عن الاتجاه الذي نسير نحوه كبشر. فمن نظارات تراقب حالة التركيز العقلي إلى مساعدين ذكيين يفرزون القمامة.
وروى تقرير نشرته صحيفة "الغارديان" البريطانية قصة العالمة ناتاليا كوزمينا التي تعمل على تطوير أجهزة يمكن ارتداؤها لرصد النشاط الدماغي، بهدف مساعدة المرضى الذين فقدوا القدرة على النطق. لكن سرعان ما وجدت نفسها في مواجهة أسئلة من نوع مختلف: هل استخدام نماذج اللغة مثل ChatGPT يؤثر سلبًا على الذاكرة والتركيز؟ وهل من الممكن أن يشعر الإنسان بأن دماغه قد تغيّر فعلاً؟
هذه التساؤلات دفعتها إلى إجراء تجربة بسيطة لكنها لافتة. جمعت 54 مشاركًا من طلاب المعهد وجامعات مجاورة، وطلبت منهم كتابة مقالات بثلاث طرق: من دون مساعدة، باستخدام محرك بحث، وبمساعدة ChatGPT، بينما كانت أجهزة تخطيط الدماغ ترصد مستويات النشاط العصبي. أما النتيجة، فهي كلما زادت المساعدة الرقمية، انخفضت مؤشرات النشاط الذهني المرتبط بالتركيز والمعالجة الإبداعية. أما من كتبوا باستخدام ChatGPT، فقد أظهروا أقل مستويات الاتصال بين مناطق الدماغ المسؤولة عن التفكير النقدي.
والصدمة الأكبر كانت حين سُئل المشاركون بعد وقت قصير عمّا كتبوه: قلة قليلة ممن استخدموا ChatGPT استطاعوا تذكر أو اقتباس شيء مما أنتجوه. وكأنهم سلّموا عقولهم للأداة وخرجوا بلا شيء.
أكثر من مجرد كتابة
وكوزمينا، التي تبلغ من العمر 35 عامًا، فتلفت الانتباه إلى مسألة أعمق: كتابة مقال ليست مجرد مهمة أكاديمية، بل هي تمرين على التحليل وبناء الحُجّة وتفسير المعلومات—وهي مهارات أساسية في كل تفاعل بشري. والسؤال، كما تطرحه: هو إذا فقدنا القدرة على التفكير بأنفسنا، فكيف سنشارك فعليًا في نقاش أو نواجه مواقف الحياة اليومية؟
ووفقا للغارديان، فإن التجربة لم تُراجع بعد علميًا، لكنها سرعان ما أثارت موجة اهتمام عالمي. وتلقت كوزمينا آلاف الرسائل، كثير منها من معلمين قلقين من أن طلابهم يعتمدون على الذكاء الاصطناعي لإنجاز تكليفاتهم، دون أن يتعلموا فعليًا شيئًا. يتحدثون عن جيل يمكنه إنتاج نصوص مقبولة، لكنه يفتقر للفهم الحقيقي أو العمق المعرفي.
المشكلة، برأي كوزمينا، ليست في الذكاء الاصطناعي بحد ذاته، بل في طبيعتنا كبشر. فنحن مبرمجون بيولوجيًا لتفضيل الطرق الأسهل، وتجنب "الاحتكاك" العقلي. لكن التعلم لا يتم إلا من خلال هذا الاحتكاك. العقل البشري يحتاج مقاومة، يحتاج تحديات ليبني الذاكرة والفهم.
سباق في تطوير التكنولوجيا
وهنا تكمن المفارقة: بينما يتسابق صناع التكنولوجيا لتقديم تجارب سلسة وخالية من الجهد، يتقلص دور الإنسان كمفكر مستقل. نحن نتهرب من المكالمات الهاتفية، نستخدم الآلات في المتاجر، نعتمد على الخرائط الرقمية لتوجيهنا، ونتحقق من الحقائق قبل أن نثق بذاكرتنا. حتى قراءة كتاب باتت تبدو مرهقة للبعض، والتركيز أصبح نادرًا.
وهذا "العالم السلس" لا يمنحنا فقط الراحة، بل يأخذ منا شيئًا أساسيًا: القدرة على العمل العقلي الحقيقي. فالاعتماد الكلي على أدوات تفكر عنا، قد يكون هو نفسه أكبر ما يهددنا بفقدان القدرة على التفكير.
وفي وقت تتهاوى فيه درجات الطلاب في اختبارات المهارات الأساسية، وتبدأ إشارات تراجع معدلات الذكاء في الظهور في بعض الدول المتقدمة، تبدو الأسئلة التي تثيرها هذه التجربة أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى: هل نحن بصدد خلق مجتمع “سهل الغباء”؟ ليس لأن الناس أغبياء، بل لأن كل شيء من حولهم مصمم ليمنعهم من التفكير؟
والتحذير هنا لا يدعو لرفض التكنولوجيا، بل لفهم الثمن المعرفي الذي ندفعه مقابل الراحة. ففي عالم الذكاء الاصطناعي والمعلومات المضللة، قد نكتشف متأخرين أن عقولنا لم تعد لنا، وأننا لم نعد نمتلك أدوات المقاومة، ولا حتى الرغبة في استخدامها.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuODYg جزيرة ام اند امز