الأهم لاحقا هو ترجمة القرار إلى سلوكيات عملية وأفعال في سياسة الولايات المتحدة تجاه تركيا
تصويت مجلس النواب الأمريكي على اعتبار أحداث 1915 ضد الأرمن "إبادة" يعتبر انتصاراً للأرمن والقضية الأرمنية عموماً، وما يضاعف من أهمية القرار أنه جاء بإجماع مجلس النواب، فقد صوّت لصالحه 405 نواب مقابل اعتراض 11 نائباً من مجموع أعضاء البرلمان البالغ عددهم 435 نائباً، أي أن القرار وافقت عليه الغالبية الساحقة من نواب الحزب الديمقراطي وعددهم 219 نائباً والجمهوري وعددهم 193 نائباً.
الأهم لاحقاً هو ترجمة القرار إلى سلوكيات عملية وأفعال في سياسة الولايات المتحدة تجاه تركيا، وهو الأمر الذي يخضع (شأن أي دولة أخرى) للمصالح العليا وليس للمعايير الأخلاقية
ويسعى الأرمن منذ عقود إلى نيل اعتراف العالم بحصول "الإبادة"، وقد بلغ عدد الدول التي تعترف بذلك أكثر من 31 دولة، منها لبنان، وهدفهم من وراء ذلك ثلاثة أمور: الاعتراف وبالتالي التعويض ومن ثم استعادة الأراضي التي كان يسكن الأرمن فيها في شرق الأناضول والتي هُجّروا منها خلال الحرب العالمية الأولى، ويرى الأرمن أن شرق الأناضول ليس سوى أرمينيا الغربية التي يقع فيها أيضاً رمز الأرمن أي جبل آرارات، الذي يقع اليوم داخل الحدود التركية تماماً على الحدود مع أرمينيا، ويعتبر مزاراً لكل الأرمن ولو من خلف الحدود.
لكنها ليست المرة الأولى التي يعترف فيها مجلس النواب الأمريكي بالإبادة، ففي العامين 1975 و1984 صدر قراران مماثلان، فضلاً عن أن الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريجان استخدم في أحد تصريحاته مصطلح الإبادة.
لكن أي قرار عن مجلس النواب يتطلب أن يذهب إلى مجلس الشيوخ، ومنه إلى الرئيس الأمريكي ليوافق عليه أو يرفضه، لذلك فإن إنجاز الاعتراف في مجلس النواب يبقى ناقصاً ما لم يقرّه مجلس الشيوخ، وفي التوقعات أن الإجماع الذي حصل عليه القرار في مجلس النواب قد يكون مؤشراً على إمكانية تمريره ربما بشبه إجماع في مجلس الشيوخ المؤلف من مئة عضو، مع فارق أن الغالبية البسيطة في مجلس الشيوخ هي بيد الجمهوريين وليس الديموقراطيين مع إمكانية حدوث مفاجآت. لكن حتى لو وافق مجلس الشيوخ على القرار يبقى أن يوافق عليه الرئيس دونالد ترامب وإلا سيبقى قرار الاعتراف حبراً على ورق مع فارق واحد وهو أنه إذا ردّ ترامب القرار ومن ثم أكد عليه مجلسا النواب والشيوخ من جديد يصبح سارياً من دون موافقة وتوقيع الرئيس.
يمكن للعديد من المراقبين التوقف عند الأسباب التي دفعت بالديمقراطيين والجمهوريين إلى التوافق على اتخاذ قرار يثير حتماً سخط تركيا وغضبها.
التفسير الأول هو أن الديمقراطيين قدموا القرار لاعتبارات انتخابية في سنة الانتخابات الرئاسية والنصفية، والسباق على كسب أصوات الأرمن ومن حولهم، على قدم وساق، ولم يكن أمام الجمهوريين سوى مسايرة الموجة للسبب نفسه، أي كسب جزء من الناخبين إلى جانبهم.
التفسير الثاني أن الديمقراطيين يريدون إحراج ترامب بعد اتفاقه مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حول الوضع في سوريا وإقامة منطقة آمنة، خصوصاً بعدما ذهب نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس بنفسه يرافقه وزير الخارجية وآخرون إلى أنقرة في 17 أكتوبر الماضي لإبرام اتفاق المنطقة الآمنة من 13 بنداً، وقد فتح هذا الاتفاق الباب أمام تشريع التدخل العسكري التركي في شمال شرقي الفرات بين تل أبيض ورأس العين، والذي كان بدأ قبل أسبوع في التاسع من أكتوبر.
يعارض الديمقراطيون سياسة ترامب في الانسحاب من سوريا، ويرون فيه خطأ استراتيجياً، كما انتقدوا بشدة تخلي ترامب عن دعم قوات سوريا الديموقراطية "قسد".
ومن هنا يسعون إلى وقف هذا المسار بكل الأساليب، ومن ذلك التصويت على قرار الإبادة علّه أيضاً يعطل اللقاء المحدد في 13 أكتوبر بين ترامب وأردوغان في البيت الأبيض، كما صوّت مجلس النواب على قرار بفرض عقوبات اقتصادية على تركيا ربطاً بعمليتها العسكرية في سوريا.
انتظر مجلس النواب 35 سنة ليجدد الاعتراف بالإبادة، لكن العبرة هي في مروره في مجلس الشيوخ ومن ثم توقيع الرئيس عليه.
والأهم لاحقاً هو ترجمة القرار إلى سلوكيات عملية وأفعال في سياسة الولايات المتحدة تجاه تركيا، وهو الأمر الذي يخضع (شأن أي دولة أخرى) للمصالح العليا وليس للمعايير الأخلاقية، خصوصاً أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي وشريك أساسي ولا غنى عنه للغرب في سياساته الإقليمية والدولية.
نقلاً عن "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة