القيمة الفنية بلا قيمة في "شارات" المسلسلات.. والوسط الفني يفتقر لـ"أدب التيترات"
لنتحدث عن الأصول الفنية العالمية المتبعة في ترتيب اسم الممثل وحجمه في عناوين البداية الخاصة بالمسلسلات والأفلام، وليحكم القارئ بعدها
أثارت (البوسترات) الدعائية المتعلقة لعدد مما يعرف بمسلسلات (الدراما اللبنانية- السورية المشتركة) التي أنتجها لبنانيون للعرض في رمضان 2019، جدلاً واسعاً في الأوساط الفنية والصحفية، حول شكل ظهور الفنانين السوريين واللبنانيين وترتيبهم فيها، وهي مشكلة كانت بدأت منذ عدة سنوات، إلا أنها طفت على السطح هذا العام على نطاق واسع، بعد ظهور وجوه تمثيلية لبنانية بتاريخ فني متواضع في صدارة تلك الملصقات الدعائية، في وقت بدت التسريبات القادمة من غرف المونتاج، المتعلقة بترتيب الأسماء في عناوين (تيترات) المسلسلات مثيرة للغضب مع تجاهل تاريخ فني وحضور جماهيري كبير لعدد من النجوم السوريين لصالح إبراز تلك الوجوه الفنية.
من حيث المبدأ، ومع سيادة الإنتاج المستقل وانتشار الفضائيات، بدا صناع الدراما من فنانين وفنيين الحلقة الأضعف في مرحلة ما قبل الإنتاج، وباستثناءات قليلة، بدأنا نشاهد في السنوات الأخيرة حالات استلاب لإرادة صناع الدراما من كتاب ومخرجين وممثلين من قبل منتجي العمل، عززها غياب تنظيم الصناعة الدرامية وقواعد العمل المؤسساتية في الدراما السورية، وعمّقت الحرب من أزمتها التي شهدتها سوريا في السنوات الثماني الأخيرة، والتي أدت إلى هجرة عدد من نجوم الصف الأول في سوريا إلى درامات أخرى للعمل فيها.
في بلد عريق بتقاليد المهنة، مثل مصر، بدا حضور الممثلين السوريين في الدراما المصرية بحجم تاريخهم الفني وجاذبيتهم الجماهيرية فشهدنا فنانين مثل جمال سليمان وتيم حسن وسلاف فواخرجي وباسل خياط يتصدرون عناوين مسلسلات مصرية والبطولة فيها، بل أسهمت الدراما المصرية في صعود اسم فنانة مثل كندة علوش إلى قائمة الأسماء الأولى في مصر بعد أن تلمست موهبتها الفنية، وكلما زادت سنوات السوريين في مصر، كان حضورهم الفني يتعزز أكثر، ولعل خير مثال على ذلك الفنان باسل خياط الذي انتقل من وسط نجوم مصر في مسلسلي "نيران صديقة" و"مكان في القصر" عام 2013، إلى نجم يتقاسم البطولة المطلقة مع الفنان آسر ياسين في مسلسل "30 يوم" (2017) لينتقل بعدها بعام ونتيجة لتألقه المدهش في هذا المسلسل الأخير، وينال البطولة المطلقة في مسلسل "الرحلة 710".
وبالمقابل شهدت معادلة الحضور السوري في المسلسلات التي أنتجها لبنانيون ببطولة سورية لبنانية مشتركة، اختلالاً في توازنها، جرى بشكل متدرج وصولاً إلى العام الجاري، فمن كان يتصدر عناوين البداية في هذه المسلسلات من السوريين متقدماً على أسماء لبنانية بعينها من دون جدال، بات يجاهد اليوم للحفاظ على اسمه وسط هذه الأسماء نفسها بعد عامين أو ثلاثة. وباستثناء الفنان تيم حسن وبدرجة أقل الفنان عابد فهد لم يستطع أحد أن يفرض شروطه كاملة في ترتيب اسمه وحجمه في عناوين المسلسلات، وليس أدل على ضراوة المعركة التي يخوضها النجوم السوريون، بما فيهم هذان النجمان من الشكل الذي باحت بها عناوين مسلسل "طريق" في العام الفائت، حين شاهدنا ظهور اسمي الفنانين "عابد فهد" و"نادين نسيب نجيم" معاً بسطر واحد في صدارة عناوين البداية، إلا أن ترتيب الاسمين سرعان ما صار يتغير بين حلقة وأخرى، فتارة يكون اسم الفنان عابد فهد على يمين الشاشة، وتارة يصير على يسارها.. وهو الشكل الذي يوحي بحل وسط لاشتباك حاصل حول ترتيب الأسماء ما كان ليحدث بين الاثنين قبل 4 سنوات بالضبط حين اشتركا في بطولة مسلسل "لو" وظهر اسم الفنان فهد أولاً، وظهر اسم الفنانة نجيم ثالثاً بعد اسم الفنان يوسف الخال.
ربما يقول البعض إن هذه الأخيرة اجتهدت على نفسها في السنوات الأخيرة واستحقت الصعود لتنافس على ترتيب اسمها على هذا النحو في مسلسل "طريق"، واجتهاد الفنانة نجيم أمر نتفق عليه بشكل كبير، ولكن قبول منافستها للفنان عابد فهد بناء على هذه الحجة، يعني أن "عابد" لم يتطور ولم يجتهد طيلة تلك السنوات، وهو الأمر الذي لم يحدث، ولا أعتقد أن اثنين يختلفان في هذا الكون على حقيقة أن "جابر سلطان" في مسلسل "طريق" كان نجم العمل وحامله الأول وساتر عيوبه أيضاً.
لندع جانباً تخصيص حديثنا عن فنانين سوريين ولبنانيين كيلا يأخذنا البعض إلى متاهات عنصرية ضيقة، ولنتحدث عن الأصول الفنية العالمية المتبعة في ترتيب اسم الممثل وحجمه في عناوين البداية الخاصة بالمسلسلات والأفلام، وليحكم القارئ بعدها عما يراه طبيعياً أو نافراً في المشهد الدرامي اليوم وترتيب الأسماء والأدوار في المسلسلات.
يتحكم عادة في ترتيب اسم الممثل وحجمه في كل المواد الإعلانية والعناوين الافتتاحية للعمل الدرامي مجموعة من الشروط التي يتم التفاوض عليها، ورغم أن القاعدة القانونية تقول إن "العقد شريعة المتعاقدين" فإن تلك الشروط التعاقدية تبقى تستند إلى معايير فنية وإنتاجية، ومنها تاريخ الممثل وشهرته الجماهيرية وجاذبيته التسويقية ومساحة حضوره في الحكاية وتأثيره في مساراتها، على أن يكون العامل الحاسم في ترتيب أسماء الفنانين عند تساوي المعايير الإنتاجية والفنية هو التاريخ الفني لكل منهم.
ولأن ظهور اسم ممثل ما قبل اسم العمل الدرامي الذي يشارك فيه، إشارة صريحة إلى أنه مختلف عن الممثلين الذين تظهر أسماؤهم بعد اسم العمل الدرامي، فلا بد أن نتلمس كمشاهدين أثناء العرض ما يميز تلك الأسماء التي تتصدر عناوين المسلسلات، وهل يمتلكون فعلاً ما يجعلهم مختلفين عن فنانين من أصحاب التاريخ الفني والقيمة التمثيلية.. غير رغبة المنتج بذلك؟!
بلا شك أن ترتيب الأسماء في عناوين البداية قيمة اقتصادية لمنتجي الدراما والممثلين والفنيين، وهي تشكل أساساً لاستثمار الجمهور، ولكن هل يعني ذلك تجاهل القيمة الفنية وتاريخ الممثل وقدراته التمثيلية لصالح حالة دعائية، وشهرة قادمة من أماكن أخرى لا علاقة للتمثيل والفن فيها، ونجومية صُنعت انطلاقاً من صالونات الحلاقة وصفحات التواصل الاجتماعي...؟!
إن كانت تلك معايير القيمة الاقتصادية لدى المنتجين، فربما من المناسب إسناد دور البطولة في أعمالهم المقبلة إلى "بيضة الأنستقرام" الشهيرة فقد حصلت صورتها على أكثر من 40.6 مليون معجب خلال نحو 10 أيام فقط.
ومهما كانت حسابات القيمة الاقتصادية ثقيلة، ثمة ما أسميه "أدب التيترات"، وهو أدب يفرض قواعده سمو العملية الفنية ورقيها ورفعة رسالتها، وهي قواعد لا بد أن تسري على جميع الممثلين وبينهم، وتسري على المنتج الفنان أيضاً، ومن سيرة أدب التيترات لطالما ذكرنا واستشهدنا بحكاية تعود إلى عام 1945 حين رفض نجوم فيلم (49th Parallel) "ليزلي هوارد" و"ريموند ماسي" و"لورانس أوليفييه" و"انطون والبروك"، وضع اسم زميلهم الممثل البريطاني "ايريك بورتمان" في مرتبة ثانية في تيترات الفيلم (49th Parallel) ، وأصروا احتراماً لقيمته الفنية على وضع اسمه مع أسمائهم قبل اسم الفيلم.. فهل انتقص ذلك من قدر الثلاثة أن منحهم المزيد من احترامنا.
ما اعتدناه في الوسط الفني العربي هو العمل بقاعدة "أنا ومن بعدي الطوفان" وغياب "أدب التيترات" عن دوائر العمل الإنتاجية لا يُستثنى منه أحد، إذ لم تمض أيام قليلة على تداول وسائل التواصل الاجتماعي اللقاء الأخير للفنان محمد الجندي وفيه كان الرجل يقول إن قرار ابتعاده عن الفن كان بعد أن تفاجأ بغيابه وغياب الفنان محمود الجندي عن بوستر مسلسل (رمضان كريم) الذي أدى فيه شخصية كريم، بينما أدى فيه الفنان سيد رجب شخصية رمضان.. كلنا شاهد تيترات مسلسل "رمضان كريم" كيف تقدم اسم الفنانة "روبي" على اسم عبقرية التمثيل (سيد رجب) واسم الفنان شريف سلامة على تاريخ فني كبير مثل "محمود الجندي" رغم أن الاثنين، أي الجندي ورجب، يشغلان المساحة الأساسية في حكاية المسلسل ولا يحلان عليها ضيفي شرف.
ولأننا قلما نسمع عن مواقف شبيهة بمواقف نجوم فيلم (49th Parallel) بين نجوم الفن العربي اليوم، فلا ننتظر في الغالب أن ينتصر أي من النجوم الصاعدين إلى واجهة عناوين المسلسلات لتاريخ فني، كلنا شاهدنا حالة التعظيم التي لقتها الفنانة منى واصف مؤخراً في لبنان ولكن أيا من أولئك الفنانين الجدد يرضى أن يكون اسمه قبل اسمها.
ولأننا لم نسمع أيا من أصوات الفنانين المهضومة حقوقهم أو ممن تعرضوا لحالات استلاب لقيمتهم الفنية يعترض علناً عما حصل عليه، ففي الغالب سننتظر طويلاً قبل أن نشهد حملة (Me too) جديدة رفضاً هذه المرة لاغتصاب حقوق الممثلين المعنوية.