لم تأت زلة الرئيس الأمريكي "جو بايدن" من فراغ، حين شكر الصين عوضاً عن كندا أمام البرلمان الكندي، بل نتاج لتطورات متسارعة في ميزان القوى الدولي، جعلت بكين قادرة على احتواء روسيا في حديقتها الخلفية.
وشكل لقاء الرئيس الصيني "شي جين بينغ" بالرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" أهمية بالغة، وانطلاقة لحقبة جديدة من العلاقات، لو علمنا أن حجم التجارة بين البلدين يصل إلى 190 مليار دولار، ستعتمد بها موسكو على بكين في تبادلاتها التجارية، وعلى اليوان الصيني كعملة متداولة في البنوك الروسية، ما يعكس عمق الأزمة الاقتصادية التي تمر بها روسيا، بسبب العقوبات الغربية على استخدام نظام "سويفت" للتحويلات النقدية.
كلما طالت الحرب الروسية الأوكرانية، كلما زاد اعتماد موسكو على بكين، وليس بغريب، لو علمنا أن البنوك الصينية تملك من الأصول 30 ضعفاً ما تملكه البنوك الروسية، في توقيت دقيق ضاعف به الغرب الدعم العسكري لأوكرانيا، ما يعني أنه بإمكان التنين الصيني مواجهة القطب التقليدي في واشنطن عبر الأداة الروسية، وسيعيد تأهيل الصين كقوة عالمية.
قد تأمل الصين بتشكيل نظام مالي عالمي، مستقل عن الدولار على المدى الطويل، ولكنه هدف صعب المنال، بسبب اعتماد تجارتها الخارجية على الدولار بشكل كبير، وتمتاز بكين بتنوع مصادرها لاستيراد الطاقة، بحيث لا تعتمد على روسيا، كما فعلت عدة دول أوروبية، لتجد نفسها في مأزق صنعته بيدها.
الاتفاق الاستراتيجي بين روسيا والصين، يجعل بكين المزود الرئيسي للأسواق الروسية، في دلالة على أن الصين أصبحت الضامن لأمن روسيا، كما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة، الضامنة لأمن المعسكر الغربي، المتمثل في دول الاتحاد الأوروبي.
لا تستطيع الصين وروسيا تشكيل نظام مالي مستقل، في مواجهة النظام المالي الذي تقوده الولايات المتحدة، بسبب تفوق الاقتصادات الأمريكية والأوروبية التي تشكل 60% من الناتج العالمي، بينما يشكل محور بكين وموسكو نحو 21 %، ما يفسر اعتماد الاقتصاد الصيني على الاقتصادات الغربية، وهو ما يمكن المعسكر الغربي بقيادة واشنطن على فرض عقوبات اقتصادية على الصين.
ولهذا حاولت الصين البقاء على الحياد في موقفها من الحرب في أوكرانيا، للتصدي لاحتمالية فرض عقوبات اقتصادية عليها، فمن جانب تطالب باحترام سيادة الدول، ومن جانب آخر تحاول التلميح بأنها لا تتدخل في شؤون الدول، ما جعل الولايات المتحدة تشير إلى مخاوف حول دعم الصين للعمليات العسكرية الروسية، ولم تؤكد ذلك لعدم وجود أدلة.
وسيظل الخيار الأمريكي واردا لفرض عقوبات على بكين، حال حصولها على أدلة كافية، وقد تتماهى العقوبات بين استهداف للشركات الأمريكية التي تزود الصين بالتكنولوجيا، والتي تمكنها من صناعاتها العسكرية، وعقوبات على مؤسسات "الطرف الثالث"، المرتبطة بالكيانات الصينية الدفاعية.
لو افترضنا التصعيد الأمريكي المحتمل على الصين، فلن ترتقي العقوبات بتقديري إلى المستوى الذي فُرض على روسيا، بل ستهدف إلى إيلام بكين وليس إلى إقصائها؛ حتى لا يتأثر الاقتصاد العالمي، ولا تصل تداعيات العقوبات لحلفاء واشنطن.
تمكنت الدول التي تواجه عقوبات أمريكية من الالتفاف حولها عبر تشكيل تكتلات فيما بينها، والتعاون مع الدول التي لا تعترف بالعقوبات، طالما لم تكن ضمن الإطار الأممي، وعلى النقيض تماماً، تسببت العقوبات في توسيع دائرة التضامن بين الدول المستهدفة، ما جعل تأثير العقوبات محدوداً.
ستعيد الولايات المتحدة تقييم استراتيجيتها الجيوسياسية، في مواجهة محور الصين-روسيا، عبر تنشيط العلاقات مع حلفائها في شمال وشرق آسيا والمحيط الهادئ، وتفعيل وجودها في مناطق النفوذ في أفريقيا، مع استمرار حشد التأييد الدولي لدعم أوكرانيا، بهدف استنزاف موسكو.
ولو تمكنت الدبلوماسية الصينية من ملء بعض الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وأفرزت الاتفاق السعودي الإيراني، إلا أن واشنطن ستظل الأكثر تأثيراً في القرار الدولي، لامتلاكها أدوات النفوذ الاقتصادية، والعلاقات الاستراتيجية القادرة على خلق ارتباك للاقتصاد العالمي، حال فرضت عقوبات على الصين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة