بـ"أذان الجوق".. الجامع الأموي يتحدى كورونا
لا يذكر سكان العاصمة أبواب الجامع مؤصدة يوما حتى خلال أقسى مراحل الحرب التي تشهدها سوريا منذ 9 سنوات إلا مع انتشار فيروس كورونا.
داخل غرفة صغيرة في الجامع الأموي الكبير وسط دمشق، يتجمّع 6 مؤذنين، أكبرهم محمد علي الشيخ أمام مكبر للصوت، وما أن يحين موعد الصلاة حتى تصدح حناجرهم جماعيا بأذان الظهر، في تقليد متوارث وفريد من نوعه.
والشيخ، في الثمانينيات من عمره، واحد من 25 مؤذنا يتناوبون ضمن مجموعات على رفع الأذان من الجامع الذي يقع في قلب دمشق القديمة ويُعدّ من أبرز المساجد الإسلامية في العالم وشاهداً على حقبات دينية وتاريخية عدّة.
ولا يذكر سكان العاصمة أبواب الجامع مؤصدة يوما حتى خلال أقسى مراحل الحرب التي تشهدها سوريا منذ 9 سنوات، إلا أنه مع انتشار فيروس كورونا المستجد، أغلق أبوابه منتصف مارس/آذار في مشهد لم يعتده السوريون قط، ورغم ذلك، لا يزال الأذان يصدح منه يوميا ويؤنس المواطنين الذين يلازمون منازلهم.
وفي غرفة علقّت على جدرانها صورة للكعبة وآيات قرآنية، بالإضافة إلى ساعة إلكترونية تحدّد مواقيت الصلاة، يجتمع الشيخ مع 5 مؤذنين بينهم ابن شقيقه أبو أنس لرفع الأذان بأصواتهم الشجية، في تقليد يُعرف بـ"أذان الجوق"، ويقوم على أن يبدأ مؤذن بجملة "الله أكبر.. الله أكبر"، ويردّد المؤذنون الخمسة خلفه الجملة ذاتها معاً.
ويوضح الشيخ الذي كان يأتي إلى الجامع مع والده عندما كان طفلا: "في العالم كله لا مثيل للجامع الأموي وميزته بهذا الأذان الجماعي، الذي يصدح عبر 3 مآذن باسقة تميّز هندسته وتُعرف بـ(الغربية) و(الشرقية) و(العروس)".
وقبل وصول مكبرات الصوت في الثمانينيات إلى دمشق، جرت العادة أن يُرفع الأذان مباشرة من المآذن الثلاث المطلة على أنحاء دمشق كافة، ويروي الشيخ أن "ما يتراوح بين 7 و15 مؤذنا أحيانا كانوا يجتمعون في مئذنة العروس لرفع الأذان".
"تجري بدمنا"
في المساجد السورية الأخرى، يرفع الأذان مؤذن واحد، وتتعدّد الروايات حول جذور أذان الجوق ومتى بدأ اتباعه في دمشق، ويتناقل مؤذنو المسجد أن الهدف منه كان إيصال الصوت الى أرجاء واسعة من المدينة.
وبحسب المهندس ومؤلف كتاب "الجامع الأموي في دمشق"، طلال عقيلي، بدأ اعتماد الأذان الجماعي في أواخر القرن الـ15 حين كان الحجاج من المنطقة كافة يلتقون في دمشق قبل انطلاقهم إلى مكة المكرمة، وكان الهدف منه إبلاغ الحجاج بموعد الصلاة.
والشيخ الذي اكتسبت عائلته كنيتها تقديرا لمهمتها المتوارثة، أحد الذين يمنحون شهادات للمؤذنين الجدد، نظراً لخبرته التي راكمها خلال عقود طويلة، ويوضح: "يجب أن يكون صوت المؤذن جميلا وعاليا، وبعد ذلك يتعلم الأداء والتجويد على أن يُمنح الشهادة عندما يضبط إيقاع الأذان وقواعده".
وفي غرفة مخصّصة لاستراحة المؤذنين ومتصلة بمطبخ صغير وحمام خاص، يستريح المؤذنون يومياً قبل وبعد الأذان، يتشاركون وجبات الطعام والأحاديث وتنظيف المكان مداورة، ويتفقون على برنامج إنشادي يقدّمونه كل يوم جمعة قبل موعد الصلاة ويجرون التدريبات اللازمة عليه كل ثلاثاء.
ومنذ 10 سنوات، يتردّد أبو أنس بشكل يومي إلى الجامع، ويقول: "توارثنا الأذان أباً عن جد، 5 أجيال على الأقل بحسب ما نعرفه"، ويضيف: "ليست هواية، إنها تجري بدمنا".
ويشرح أبو أنس كيف تتم تلاوة أذان الجوق، وفق مقامات عدة موزعة على الأيام، كمقام الصبا السبت والبيات الأحد والنوى الإثنين، لافتاً إلى أن "أهالي المنطقة اعتادوا سماع المقامات، وبات استخدامها وسيلة للحفاظ على هذا التراث".
ويتميّز الجامع الذي يعرف كذلك باسم جامع بني أمية وله مكانته الرمزية والدينية، إلى جانب مآذنه التي يمكن رؤيتها من أنحاء عدة من دمشق بمصلاه وصحنه الواسعين وبجدرانه المغطاة بلوحات الفسيفساء، ولطالما شكّل مع سوق الحميدية الشهير الذي يؤدي إليه وجهة رئيسية لزوار دمشق.
"ثواب وعبادة"
وبين مؤذني الجامع الأموي، محمد الصغير (52 عاما) الذي يدير، على بعد أمتار من الجامع، في حي القيمرية، متجرا صغيرا لبيع الحلي الفضيّة، وبينما يصلح خاتما ويجيب عن أسئلة الزبائن حول أسعار بعض القطع المعروضة في الواجهة، يختلس النظر بين الفينة والأخرى إلى ساعة معلقة على الحائط أمامه.
وما أن يحين موعد الصلاة، يقفل محلّه ويتوجّه سيرا على الأقدام إلى الجامع للمشاركة في رفع الأذان، معتذراً لزبائنه إذا دعت الحاجة، ويشرح الصغير الذي يناديه عارفوه بلقب "حجي" احتراما: "يتفهم الناس ذلك، حتى إن الزبائن المسيحيين يسألونني الدعاء لهم".
وكان قد تعرّف على المؤذنين بحكم مكان عمله ومواظبته على الصلاة، ووجدوا أنّ "صوتي جميل وأعرف الطبقات الموسيقية والمقامات من دون الخضوع لأي تدريب، فأصبحت أردّد معهم منذ 1990"، ويقول إنه بدأ بشعر بـ"الملل" أحيانا من عمله في المتجر، لكن "العبادة المتجددة دوماً تقرّب إلى الله وليست هواية أو مهنة".
ويوضح أنه إذا كان التقاعد من عمله أمراً لا مفرّ منه، إلا أن "الدخول إلى الأموي مكرمة ومن الصعب أن أتقاعد حتى لقاء الله".
ويضيف: "فخور بأنني مؤذن في الجامع الأموي هذا تراث لسوريا ويتشوّق الجميع لسماعه ويتأثرون بروحه وروحانيته".
aXA6IDMuMTUuMjAzLjI0NiA=
جزيرة ام اند امز