التحرير من الداخل أكثر رسوخا وإقناعا، والحفر في الأعماق سيعزل الرواسب الطائفية والمذهبية والقبلية والعشائرية المتراكمة
ما زلت أفند تلك الرسائل التي حملها كتابي الجديد "أهل العشق" الذي صدر عن الدار المصرية - اللبنانية تزامنا مع معرض القاهرة الدولي للكتاب.
وهنا أشير إلى زاوية مهمة وسؤالا مصيريا أردت في الكتاب أن نكشف عن جزئه المظلم، وأن أنتقل بالبحث والنقاش مع ضيوفي إلى مربع آخر وسؤال مهم وهو: "هل نحن محكومون بأبدية التخلف وبحتميته الانحطاط؟".
هل لأننا كذلك سنبقى متخلفين؟
وهل إذا بقينا متخلفين فليس هناك منافذ للخروج والتحضر؟
هل وصلنا إلى مرحلة الانسداد التاريخي؟
سؤال أحالني إلى المفكر السوري العربي د.هاشم صالح وكتابه "الانسداد التاريخي - لماذا فشل مشروع التنوير العربي".
لم أتمكن من مقابلة د.هاشم صالح طيلة أربعة أعوام، لكن طرحه الذي جاء في هذا الكتاب كان حاضرا طيلة الوقت، هل أصبح تخلفنا أبديا وحتميا؟
*
يركز د.هاشم صالح على جملة من العتبات التي بتخطيها نصل إلى ما يريده، فهو يبدأ من عتبة الكيفية التي خرجت بها أوروبا من التخلف إلى التحضر ومن الظلام إلى نور الأفكار يقول:
"إن الدافع الأول لظهور حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر بقيادة مارتن لوثر، يكمن في تردي المسيحية في العصور الوسطى وتحولها إلى قوالب جامدة فاقدة للروح، ووصول الإيمان المسيحي إلى درجة مفزعة من التكلس والتحجر، وتحويله إلى وسيلة للضحك على العامة وجمع الأموال الطائلة وتحقيق المآرب الشخصية باسم المسيح والإنجيل، والتوسع في الحروب المذهبية نتيجة عدم تقبل الآخر".
لم تكن تلك المرة الأخيرة التي سيُهزم فيها التيار العقلاني في الإسلام، حيث هُزم مرة أخرى في العصر الحاضر، فالفكر التجديدي للإمام محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعلي عبدالرازق هُزم أمام فكر حسن البنا وجماعة الإخوان، فكانت السيادة لحركات الانغلاق الفكري من جديد
عندما ساءت الأمور بهذا الشكل، انفجرت ثورة لوثر، فكان انحطاط الواقع ومحاكم التفتيش وإرهاب العقول وراء الحفر في الأعماق، لذلك جاء التنوير الأوروبي كرد فعل على الجرائم التي ارتكبت باسم المسيحية وادعاء طرف أنه يمثل "الدين الحق"، ومن ثم أخضعت أوروبا التراث المسيحي في العصور الوسطى إلى الدراسة العلمية والمساءلة.
ودفعت المسيحية نفسها فيما بعد الثمن عندما ثار عليها مفكرو أوروبا وتبرأوا منها، وأصبح رجال الدين مدعاة للسخرية بعدما فقدوا مكانتهم بسبب تبريرهم للحروب والمذابح الطائفية.
وهكذا لم يستطع المسيحيون الأوروبيون الخروج من الانسداد التاريخي إلا بعد القبول بتطبيق المنهج التاريخي الحديث على نصي الإنجيل والتوراة، فلم يفلت تراثهم من المحاسبة والغربلة التاريخية الصارمة. وكان من ضمن ثمار ذلك: التفريق بين قشور الدين وجوهره، وتحقيق المصالحة التاريخية بين المسيحية والحداثة
*
ثم ينتقل هاشم صالح إلى عتبة أخرى مهمة يعيد بها تفكيك الحالة الأوروبية التي سبقت مشروع التطوير، ويحدث مقارنة ذكية بوضع المشروع الأوروبي وكيف تحرر على ذاته أولا بجوار مشروع عربي إسلامي يعيش الآن غير قادر على إحداث تلك المواجهة مع ذاته فيقول:
"إنه على مدار 1500 سنة، كانت الكنيسة الكاثوليكية تفرض نفسها على الآخرين، كحقيقة مطلقة كل من لا يؤمن بها كافر، عن طريق القوة ومحاكم التفتيش وحرق الكتب والناس. لكن التطور النوعي الذي حدث في أوروبا على مدار مائة عام كان بمثابة ثورة لاهوتية كبرى تصالح فيها الوعي الأوروبي مع نفسه ومع العالم، أدت تلك الثورة إلى اعتراف الكنيسة بالأديان والمذاهب الأخرى ومشروعيتها باعتبارها كلها طرقا توصل إلى الله إذا كان المرء صادق النية وصالحا في أعماله. وهو ما لا يستطيع المتزمتون فهمه لأنهم منغلقون داخل يقينياتهم المطلقة التي تنتج الإرهاب والتي عانت منها أوروبا طيلة ثلاثة قرون، فمحاكم التفتيش لم تنته في إسبانيا مثلا سوى في أواسط القرن التاسع عشر.
وهكذا استطاعت أوروبا تحقيق المعادلة المستحيلة، حيث السماح للمؤمنين التقليديين والمؤمنين العقلانيين والملاحدة بالتعايش جنبا إلى جنب في نفس المجتمع دون أن يعتدي أحد على الآخر، غير أنها لم تصل إلى هذه النتيجة إلا بعد معارك دامية خاضتها هذه التيارات ضد بعضها على مدار عدة قرون، وعندما حل القرن الثامن عشر أعلنت أوروبا القطيعة العلنية مع الرؤية التقليدية للعالم وإحلال الرؤية العلمية والفلسفية محلها. حدث ذلك لأن العقل استطاع أن يشكل حضارة متماسكة حلّ فيها العالم أو الفيلسوف محل الكاهن أو المطران، وهذه الأفكار لم تعد محصورة بين المفكرين فقد تجاوزتهم لتصل إلى الجمهور، ولذلك استطاعت الانتصار على الأصوليين المسيحيين بعد توسع قاعدتها الشعبية".
هنا يؤكد صالح أن التجربة الأوروبية كانت حصيلة مصارعة الذات لذاتها على نحو جدلي خلاّق، وهذا أعظم أنواع التحرير الذي يمثل الخلاص الحقيقي، وهو ما لم يدركه المثقفون العرب الذين هربوا من مشاكل الذات وقفزوا فوقها بتبني أيديولوجيات جاهزة مستوردة من الخارج. فحل المشكلة التراثية لا يكون إلا بخوض معركة الصراع معها على المكشوف، والوقوف على أرضية الأصوليين نفسها بغرض تفكيك مقولاتهم المتحجرة بشكل علمي وتاريخي دقيق.
فالتحرير من الداخل أكثر رسوخا وإقناعا، والحفر في الأعماق سيعزل الرواسب الطائفية والمذهبية والقبلية والعشائرية المتراكمة، من خلال مراجعة اليقينيات التي ترسخت منذ الطفولة. وهذا ما فعله فلاسفة التنوير في أوروبا عندما دخلوا في صراع مع الأصوليين المسيحيين وتصورهم اللاعقلاني الغيبي، والحداثة كمنتج ما هي إلا الخُلاصة النهائية التي تمخض عنها هذا الصراع.
**
تلك أيضا عتبة أخرى عبر إليها هاشم صالح؛ وهي أن معركتنا الحديثة هي معركتهم القديمة، فالعالم الإسلامي يشهد الآن الأزمة نفسها التي شهدها العالم المسيحي الأوروبي قبل 200 عام.
الفرق أنهم عبروها إلى رحابة التنوير الواسع، ونحن محاصرون في دوائر ضيقة قاسية، فهو يعتبر أن أهم أعراض تلك الأزمة يتمثل في انقسام الوعي الإسلامي على نفسه، فمن ناحية يريد أن يظل مخلصا للعقائد التقليدية الموروثة، ومن ناحية أخرى لا يستطيع أن يظل مخلصا لها في ضوء اكتشافات العلم والحداثة التي تناقض الرؤية القديمة للعالم. فالعمل إذن يكمن في تطبيق القراءة التاريخية والعقلانية على النصوص للتوفيق بين العقل والدين، وهذا ما فعله ابن رشد في زمنه.
ويشبّه صالح الحالة الأوروبية قبل قرنين بحال العالم الإسلامي الآن، فيقول إن تصريحات باباوات روما في القرن التاسع عشر ضد الفلسفة الليبرالية والعلمانية والديمقراطية وحقوق الإنسان ومعظم أفكار الحداثة تكاد تسمع أصوات الأصوليين نفسها عندنا وهم يدينون الديمقراطية، وأن كل المعارك السياسية والفكرية التي تدور الآن ليست إلا مقدمة تمهيدية لفتح الملفات القديمة المغلقة منذ أكثر من ألف عام.
فالمناقشات والمعارك التي تدور الآن في العالم العربي، دارت من قبل بين الأصوليين والتنويريين في أوروبا، مثل نظرية التطور لداروين التي قبلها التيار الليبرالي الصاعد داخل الكنيسة ورفضها التيار الأصولي، بحجة أنها مخالفة للكتاب المقدس الذي يقول إن الإنسان على هذه الهيئة منذ 6 آلاف عام، ولم يحدث له أي تطور، ولكن العلم الحديث يقول إن الإنسان وُجد منذ ملايين السنين.
انتهت هذه المعارك التي طالت لمدة ثلاثة قرون بانتصار الحداثة، وقامت الحضارة الغربية على أنقاض الرؤية الأصولية، وأصبحت المصالحة بين العقل والدين ممكنة؛ ليس بالقضاء على الأخير ولكن بتوليد فهم آخر له غير الأصولي المتحجر الشائع منذ مئات السنين.
*
ولعل السؤال الأجرأ والأشجع هو لماذا نجح الإصلاح الديني في المسيحية، ولم ينجح في الإسلام؟
لماذا خرج المسيحيون من أسر لاهوت القرون الوسطى والفتاوى الكنسية التكفيرية؟ ولماذا لا يستطيع معظم شيوخ الإسلام أن يخرجوا من هذا الموقف المتحجر بادعاء الحقيقة المطلقة؟
هو يؤكد أن "المجتمعات الأوروبية تقدمت على مختلف المستويات وانتشرت فيها الأفكار العلمية والتنويرية إلى حد أجبر الكنيسة الكاثوليكية الرومانية على تغيير مواقفها التقليدية الجامدة، فلم يكن لمجمع الفاتيكان أن يغير من القناعات التي سيطرت على عقول المسيحيين الأوروبيين أكثر من 1500 عام إلا إذا سبق ذلك طفرات علمية وفلسفية لا مثيل لها في التاريخ، مثل الثورة العلمية بقيادة كوبر نيكوس وغاليليو وأينشتاين، والثورة الفلسفية بقيادة ديكارت وكانت وهيجل وكل فلاسفة التنوير، والثورة السياسية التي تمثلت في الثورة الإنجليزية 1688 والثورة الأمريكية 1776، والثورة الفرنسية الكبرى 1789، على هذا النحو انفك الانسداد التاريخي في المسيحية الأوروبية.
يرى هاشم صالح أن هذا العمل الأوروبي التفكيكي التحرري لا يزال مستحيلا في العالم العربي والإسلامي بسبب عدم انتشار الأفكار العلمية والفلسفية في أوساط الشعب بما فيه الكفاية أو حتى في أوساط العلم والثقافة أحيانا، فأفكار الماضي وسلطة الأقدمين العقائدية ما زالت تتمتع بهيبة لا تزال هي السائدة والشائعة في مجتمعاتنا، والشيخ الجليل الذي يتحدث على شاشة التلفاز يعادل في تأثيره كل المثقفين العرب دفعة واحدة.
*
إن العتبات التي تنقل بينها هاشم صالح لم تكن تسير للأمام فقط، وإنما أعاد بها ليرصد الحالة الفكرية العربية قبل أن يدخلوا إلى نفق الانسداد التاريخي بلغته، ولو لم يذكر تلك الحالة في مبحثة لكان ناقصا غير محايد فالانسداد طارئ سبقه نضوج ونور وتنوير ثم توقف، أو جاء زمن القطيعة أو تأسس حجاب حاجز فصل بين زمنين؛ زمن قديم للتنوير وزمن جديد للتخلف مسيطر، زمن ينجح فيه القديم في هزيمة الحديث، وركب الماضي الحاضر.
يستعرض هاشم صالح التاريخ العربي قبل دخوله في النفق المظلم، فيقول إنه لولا تلك الترجمات التي مولها خلفاء بغداد والأندلس لضاعت الفلسفة الإغريقية، ولما حصلت النهضة الأوروبية لاحقا، ولكن مأساة المسلمين أنهم تخلوا عن العلم والفلسفة بعد الدخول في عصر الانحطاط؛ أي بعد موت ابن رشد عام 1198م، وأدى سقوط الأندلس فعليا عام 1492م إلى نهاية المشروع الإسلامي القائم على العقلانية.
المشكلة هنا أن عصور الانحطاط استمرت فترة طويلة؛ أي منذ القرن الثالث عشر حتى التاسع عشر، فشكلت حجابا حاجزا يفصل بيننا وبين العصر الذهبي الذي حكم الأندلس 50 عاما، والذي كان يتبنى فيه الخليفة عبدالرحمن الثالث مثلا العلماء من كل الأديان، فأبدعوا في كل المجالات؛ في الفلك والطب والرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلم النبات والجغرافيا، وكانت قرطبة أكثر مدن أوروبا تقدما من الناحيتين العلمية والحضارية، ومكتبتها كانت تحتوي على ما لا يقل عن 400 ألف كتاب، ونتيجة هذا الإشعاع الثقافي ظهر فلاسفة كبار من كل الأديان؛ مثل ابن مسرة وابن حزم وابن باجة وابن الطفيل وابن رشد وموسى بن ميمون، وكانت اللغة العربية لغة العلم والثقافة. في هذا العصر اتخذ عبدالرحمن مطران قرطبة المسيحي ريسموند مستشارا له، وطبيبه كان اليهودي هسادي بن شاتبروت.
الشيء المدهش هنا أن الفلسفة والإيمان لم تنبذ بعضها مثلما حدث بعد ذلك في قرون الانحطاط، عندما حل الموحدون محل المرابطين فضيقوا على حرية الفكر في الأندلس، ثم ساءت الأوضاع السياسية فخرب التعايش بين الأديان وقُضي على الفكر والفلسفة.
هنا اتهم صالح الفقهاء المالكيين بالقضاء على هذه الروح الانفتاحية الرائعة، والتسبب في دخول العالم العربي والإسلامي ذلك الانسداد التاريخي الذي نتج عن هزيمة التيار العقلاني والتأويلي في الإسلام وسيطرة التيار الأصولي المتزمت، أهل التقليد والتفسير الحرفي، على الشارع الإسلامي. ونتيجة لطول الفترة التي سيطر فيها هذا الاتجاه على عقول المسلمين تناسى كثيرون أن الإسلام كان تعدديا في الفترة الكلاسيكية الحضارية.
لم تكن تلك المرة الأخيرة التي سيُهزم فيها التيار العقلاني في الإسلام، حيث هُزم مرة أخرى في العصر الحاضر، فالفكر التجديدي للإمام محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعلي عبدالرازق هُزم أمام فكر حسن البنا وجماعة الإخوان، فكانت السيادة لحركات الانغلاق الفكري من جديد.
من هنا أصبح الانسداد سيد الموقف، فالقديم ما زال قادرا على إيقاف أي محاولة تنوير تفتح أبواب التراث المغلقة، والمصادرة صارت إحدى أدوات الانسداد التاريخي الذي يشل العالم العربي ويمنعه من النهوض والتقدم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة