من حسن الحظ والطالع أن تكون مقالتي في هذا اليوم المبارك، فهي فرصة ليبتعد المرء عن التحليل والنقاش
من حسن الحظ والطالع أن تكون مقالتي في هذا اليوم المبارك، فهي فرصة ليبتعد المرء عن التحليل والنقاش، وفسحة للقلم أن يخط بعضًا من بوح النفوس ونجوى القلوب. ففي هذه الأيام الفضيلة ترتفع أصوات الحجيج بالتلبية، تهتف بها القلوب والأرواح والوجدان، وتفيض على الألسنة التي تنادي خالقها في هذا اليوم المعظم.
لبيك اللهم لبيك... جعلت لنا هذا اليوم للفرح وللسماحة وللمحبة، وجعلت سعادة قلوبنا عبادة وطاعة... تنطلق التكبيرات حاملة ضراعة التطلع إلى رحماتك، وخشوع المحبة في رحابك، والأنس بأنوار جلالك التي تشرق لها قلوب عبادك يقينًا ورضى ورضوانًا.
لبيك اللهم لبيك... تملأ الأفق وتستحضر أوجه الراحلين من الأحبة في صباح العيد، تتألق أعينهمِ بشرًا وتحيط بنا ذكراهم ريحانًا نديًا لتحيي أشواقًا لم تطوها السنون، ويمر العمر أمامنا وكأنه لم يكن إلا عيدًا يتلوه عيد وعيد وعيد.
لبيك اللهم لبيك... علمتنا أن يوم افتداء روح الإنسان هو اليوم الذي يستحق أن نخّلد ذكراه إلى أن يطوي الله الأرض ومن عليها، وأن الحياة التي وهبتنا إياها هي الهبة التي يجب أن نحفظها ونحمل أمانتها.
ولا يكون العيد عيدًا إلا إذا خالط القلَب عبُقه وشذاه... ولا يكون تعظيم شعائر الله إلا إذا امتلأت بها القلوب والأرواح والأنفس... إنها «تقوى القلوب» التي تتجاوز الصور والأشكال إلى ملامسة الجوهر الإنساني النقي.
ربما تكون هذه اللحظات المباركة من اجتماع القلوب، هي أنسب اللحظات التي يمكن أن ندعو فيها الله، مخلصين، أن يخفف عنا ما يخيم على عالمنا العربي والإسلامي من خطولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
فلنستحضر إيماننا ويقيننا بالله، ولندُعه أن يزيل عنا الهم والحزن، وأن يبدل الشقاق مودة، والعداء إخاًء، والخوف أمنًا، والحرب الضروس سلامًا عميمًا. وما ذلك على الله بعزيز. ليقف كٌّل أمام ضميره في هذا اليوم الميمون، وليحاسب نفسه بتجرد على ما قّدم... قوًلا أو فعًلا أو تغاضيًا... وليسأل الله بقلب مخلص أن يهديه سواء السبيل... وستستيقظ ضمائر كثيرة وتؤوب إلى ربها وتثوب إلى رشدها.
يريد الله تعالى بنا اليسر لا العسر، والسعة لا الضيق، والائتلاف لا الاختلاف. يريد لنا وحدة الصف واجتماع الكلمة، والخير عاجله وآجله، والرخاء والعزة والمنعة.
إن كل من يسعى في شق الصف، تحريضًا أو تخرصًا أو إثارة للبلبلة والشكوك أو نقض العهود ونكثها إنما يسعى في خراب إخوته في الدين والوطن، وأقِبح بذلك من جرم!
إن كل من ينفخ في نار الفتنة ويذكي أوار الكراهية ويستحضر كوامن الحقد ويفتش عن مواطن الجدل العقيم والتحزب الذميم ويفرق المؤمنين طوائف وشيعًا، إنما يخون عهده مع الله ورسوله ويخون أمانته عامدًا متعمدًا، وما أفدحه ذنبًا!
يعدنا الله مغفرة منه وفضًلا، ويعدنا الشيطان الفقر ويأمرنا بالفحشاء، فهل لكثير منا أن يسألوا أنفسهم: إلى أي الوعدين نستجيب ونحث الخطى؟ ذلك الفقر الذي يتفاقم من حولنا هو وعد الشيطان، وطريقه هو التنابذ والخلاف. والفحشاء في أبشع صورها هي ماُيمارس من قتل عبثي تحت رايات الدين، والدين منه براء.
الفحشاء أن يتشرد أبناء البلدان الإسلامية في أقطار الأرض يستجدون مأوى وكسرة خبز، وأبناء البلدان الإسلامية الذين أعني يشملون كل من يقيم على أرضها، من أي دين أو مذهب أو عرق، وقد احتضنتهم البلدان الإسلامية على طول تاريخها... واحترمت عقائدهم وأتاحت لهم حرية ممارسة شعائرهم... فهل كان ما استجبنا له هو نداء الله أم نداء الشيطان؟
نعلم علم اليقين صعوبة ما نعاني، لكن هذا لاُينسينا أن الله أخبرنا بأنه قريب، يجيب دعوة الداعي، فلندعه في هذه اللحظات التي تتفتح فيها أبواب السموات، وإليه يصعد الكلم الطيب.
في هذا اليوم يقف ملايين الحجيج في بقعة مباركة تتسع بفعل رحابة الإيمان... لا بمقاييس الجغرافيا... ويسهر على حفظ أمنهم وحياتهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، بذلوا الجهد والمال ليكون هذا الجمع آمنًا على رغم ما في ذلك من مشقات، الجميع بينيشهدون من نعيم القرب من المولى.
هذا السمو الروحاني الذي تتضاءل إلى جانبه كل صغائر الدنيا خليق بأن يحيي موات القلوب، فمّمُقدت قلوب من يجعلون من هذا المشهد الرباني مادة للمزايدة والتجارة الرخيصة؟ وكيف لمسلم أن ينكر ما تقوم به المملكة العربية السعودية من جهود جبارة لضمان أمن الحجاج وسلامتهم، وسهر على راحتهم حتى يتموا مناسكهم التي جاؤوا لأجلها؟ وكيف لمسلم أن يصّم قلبه عن تلك المعاني بحثًا عن مغنم سياسي ملوث بالانتهازية والنفاق؟ وأن يحاول إثارة القلاقل في موسم الحج وفي بيت جعله الله «مثابة للناس وأمنًا»؟!
إن أكثر ما نحتاجه اليوم ليس الدعوة إلى الاستهانة بالأرواح، فهي أقدس ما يجب أن يصان، بل الدعوة إلى التسامي فوق المكاسب الكريهة في أبشع صورها وأكثرها خسة.
في السياق نفسه، كيف لمسلم أن تمتد يده بالقتل إلى مسلمين آخرين في اليوم الذي أمرنا الله فيه بأن نتقاسم الحب والدعاء الطيب ونصل أرحامنا ونحسن إلى فقرائنا ونسامح حتى من ظلمنا، تقربًا إلى الغفور الرحيم؟
أعرف أن حساب النفس هو أشق أنواع الحساب وأصعبها، لكنني لا أفقد الأمل في أن تجد كلماتي هذه من يعيها، وأنُيحاسب هؤلاء الذين جعلوا من الدين تجارًة أنفسهم على ما اقترفوا، لعلهم يرجعون.
في هذا اليوم المبارك، أدعو بالرحمة والمغفرة لشهدائنا الذين رووا بدمائهم أرض اليمن الشقيق، وقَدموا أرواحهم في سبيل أوطانهم، لُيسهموا في رفع كلمة الحق التي أمرنا الله بإعلائها... رجال تصدوا للدفاع عن الأبرياء ضد نفر ضلوا وأضلوا واتخذوا الإرهاب منهجًا وسبيًلا، فأساؤوا إلى دين الله وباؤوا بالخسران المبين... ونالوا الخزي في الدنيا والآخرة.
شهداء تصدوا لقوى البغي والعدوان في بلدان إسلامية ابُتليت بطمع الطامعين الذين بغوا واعتدوا ورفضوا كل دعوات السلم وحقن الدماء... تصدى هؤلاء الشهداء للبغي وانتصروا للحق وللشرعية وصعدت أرواحهم إلى علياء السماء مع النبيين والصديقين.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، وأنزل على قلوب أهلهم وذويهم الصبر والسلوان... واجعل هذه الأيام المباركة أيام فرح وسرور لنا جميعًا.
عيدكم مبارك.
* نقلاً عن "الحياة "
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة