مؤتمر العلوم السلوكية في أبوظبي... آفاق جديدة لمستقبل السلوك البشري

في قلب العاصمة الإماراتية أبوظبي، وبين قاعات يملؤها ضوء المعرفة، اجتمع هذا الأسبوع نُخبة من أبرز العقول العالمية في مجال السلوك، ضمن فعاليات مؤتمر العلوم السلوكية العالمي (BX2025) الذي يُعقد لأول مرة في الشرق الأوسط.
وحمل المؤتمر على عاتقه طموحا يتجاوز المداولات الأكاديمية إلى إعادة تخطيط السياسات العامة وفق بوصلة العقل البشري وسلوكياته.
لكن ما ميّز دورة أبوظبي هذا العام لم يكن فقط موقعها الجغرافي، بل ما فاض به المؤتمر من رؤى متكاملة، لعل أبرزها ما جاء على لسان مشاركين، شكّلت تصريحاتهم نوافذ تطل على آفاق المستقبل وتحدياته.
فعلى مدى يومين اجتمع كبار الباحثين والخبراء وصناع السياسات حول العالم، لمناقشة قضايا ملحة مثل تحسين تجربة المواطن مع الخدمات الحكومية، وتعزيز الثقة الذاتية لدى الأفراد، إلى جانب نقاشات معمقة حول الذكاء الاصطناعي وتأثيراته على السلوك البشري.
وفي هذا السياق، التقت "العين الإخبارية" بشخصيات بارزة شاركت في المؤتمر، قدمت من خلال تصريحاتها الحصرية رؤى عميقة حول العلوم السلوكية.
وجاء المؤتمر اتساقا مع تصريحات الشيخ ذياب بن محمد بن زايد آل نهيان، نائب رئيس ديوان الرئاسة للشؤون التنموية وأسر الشهداء، رئيس مجلس الشؤون الإنسانية الدولية الذي أكد أن العلوم السلوكية لم تعد ترفا فكريا، بل باتت أداة جوهرية في صياغة حلول تنموية مستجيبة، تنبني على فهم دقيق للعوامل النفسية والاجتماعية المؤثرة في سلوك الأفراد والمجتمعات.
وأقيم المؤتمر تحت رعاية الشيخ ذياب بن محمد بن زايد آل نهيان، نائب رئيس ديوان الرئاسة للشؤون التنموية وأسر الشهداء في دولة الإمارات، بتنظيم من "مجموعة العلوم السلوكية" التابعة لمكتب الشؤون التنموية وأسر الشهداء، وبالشراكة مع "فريق الرؤى السلوكية"، وذلك تحت شعار: "آفاق جديدة في العلوم السلوكية".
جسر نحو عالم أفضل
ديفيد هالبيرن، الرئيس الفخري لوحدة النُصح السلوكي البريطانية (BIT)، تحدث إلى "العين الإخبارية"، مؤكدا أن استضافة أبوظبي لهذا المؤتمر تُعد "محطة محورية" في مسار تطبيق العلوم السلوكية لتحسين حياة الأفراد.
هالبيرن، الذي يحمل على عاتقه عقودا من الخبرة في هذا المجال، شدد على أهمية التعاون الدولي، داعيا إلى "تبادل الأدلة والتجارب" بين الحكومات بدلا من أن يتعلم كل طرف بمفرده، "كيف يمكننا أن نتعلم من بعضنا البعض؟ وكيف نجعل العالم مكانا أفضل؟"، يتساءل هالبيرن، وهو يضع هذين السؤالين كبوصلة للمؤتمر.
رؤيته تتمحور حول فكرة أن السلوكيات الصغيرة قادرة على إحداث تغييرات كبيرة، لكنها تحتاج إلى تواضع ونية خيّرة، وتصريحه الأخير، "دعونا نُحافظ على دفع التغيير بسلوكيات صغيرة – بتواضع ولأجل الخير"، يحمل تحذيرا ضمنيا من إساءة استخدام العلوم السلوكية.
المعايرة.. نظافة فكرية للذات
من زاوية أخرى، قدّم مارك إيغن، الباحث الأول في معهد BIT بمكتب لندن، رؤية مكملة تركز على الفرد أكثر من المجتمع.
إيغن، الذي يقود مشروع "محطة التعاون" منذ عقد، تحدث عن مفهوم "المعايرة" كأداة لتحقيق توازن دقيق في الثقة بالنفس".
عندما تتجاوز ثقة الفرد بقدراته حدوده الفعلية، فإنه يقع في فخ التهور؛ وعندما تنخفض ثقته عن الواقع، فإنه يضيّع فرصًا هو أهل لها"، يوضح إيغن، مُبرزًا أن كلا الحالتين – الثقة الزائدة أو الناقصة – تؤديان إلى نتائج سلبية.
ما يقترحه إيغن ليس مجرد فكرة نظرية، بل عادة يومية يصفها بـ"نظافة فكرية"، مشابهة لارتداء "نظارات للعقل" لرؤية الذات على حقيقتها.
هذا الطرح يحمل أهمية خاصة في سياق ثقافي مثل الشرق الأوسط، حيث قد تُعيق الأعراف الاجتماعية – خاصة بين الشابات – الثقة بالنفس رغم الكفاءة العالية.
دعوته لتبني "المعايرة" كممارسة يومية تتماشى مع أهداف المؤتمر في تعزيز بناء مجتمعات قوية، لكنها تضيف بعدا شخصيا يركز على تمكين الفرد من الداخل.
أداة للخير دون إكراه
البروفيسور كاس سانستين، أستاذ القانون في جامعة هارفارد، قدّم زاوية أكثر عملية، مركزا على "الدفع السلوكي" كآلية لتحسين السياسات العامة دون التضحية بحرية الاختيار".
تبسيط الخيارات وتقديم المعلومات بطريقة واضحة وجذابة يسهم بشكل كبير في تغيير سلوك الأفراد نحو الأفضل"، يقول سانستين، مُشيرا إلى أمثلة مثل عرض الأطعمة الصحية في مقدمة المتاجر أو تصميم تحذيرات بصرية مؤثرة.
رؤية سانستين تتقاطع مع هالبيرن في التركيز على السياسات العامة، لكنها تضيف بُعدا يحترم الفردية، فبدلا من فرض القرارات، يدعو إلى "ترتيب الخيارات بشكل ذكي" ما يوجّه السلوك تلقائيا.
التطرف البيروقراطي
أما البروفيسور ديليب سومان، رئيس أبحاث العلوم السلوكية في جامعة تورينتو، فقد سلط الضوء على تحد عملي يواجه الأفراد يوميا ألا وهو التعقيدات البيروقراطية.
سومان، أشار إلى أن الإجراءات المعقدة قد تُثني الأفراد عن الوصول إلى حقوقهم".
هذا ما نحاول فهمه من منظور علم النفس السلوكي"، يقول سومان، داعيا إلى إعادة تصميم الإجراءات الحكومية بما يُسهل حياة المواطن.
رؤيته تتكامل مع سانستين في السعي لتحسين السياسات العامة، لكنها تركز على جانب عملي غالبا ما يُهمل: التجربة اليومية للمواطن.
رؤى متكاملة
في المحصلة، يُظهر المؤتمر أن العلوم السلوكية تتجاوز كونها مجالا أكاديميا لتصبح جسرا بين العلم والإنسانية، واستضافة أبوظبي لهذا الحدث تُبرز طموح دولة الإمارات لتكون مركزا عالميا للابتكار السلوكي، لاسيما في ظل ما يشهده العالم العربي من تحولات ديموغرافية، وتعقيدات اجتماعية، وثورات تكنولوجية، ومعه يصبح السلوك أكثر إلحاحا من أي وقت مضى.
وباحتضان أبوظبي لهذا المؤتمر العالمي، لا تكتفي بدور المضيف، بل تعلن انخراطها في سردية التغيير العالمي، وتضع نفسها في قلب النقاشات الكبرى حول مستقبل الإنسان: من الذكاء الاصطناعي إلى التربية، ومن الغذاء إلى العيش المشترك.
مؤتمر BX2025 لم يكن محطة فكرية عابرة، بل كان إعلانا ضمنيا عن تحول أبوظبي إلى مركز عالمي في "تصميم الإنسان الجديد"، القادر على مواجهة أزمات المناخ، وتعقيدات التكنولوجيا، وتحديات الصحة والتعليم، بوعي أكثر، واستجابة أذكى، وسلوك يبنى على العلم، لا على الصدفة.