بيروت.. وزمن الانفجار الكبير
لبنان ينفجر في واقع الحال من داخله، والمتآمرون يعرفون ذلك جيدا، ولهذا لا يكلفون أنفسهم عناء الدخول في حرب مباشرة مع لبنان، كما حدث في العام 2006 على سبيل المثال.
من يريد تقطيع أوصال لبنان الشامخ عبر جعله بلدا بلا مرفأ اليوم، وربما في الغد نراه دولة بلا مطار، والجميع يعلم أن مطار بيروت مختطف بدوره من مليشيات بعينها لا تخفى عن أعين الجميع؟
ساعة كتابة هذه السطور كان لبنان الحر، الرمز والرسالة، قد استيقظ على ألم لم يشهده منذ أوائل الثمانينات، أي وقت تفجير مبنى قوات المارينز الأمريكية عام 1983، ألم امتد في حقيقة الحال إلى كل منزل عربي به بقية من ذكريات العروبة، ومسحة من الشهامة، وتساؤل مرير على الألسنة؛ "هل سيجد اللبنانيون اليوم رغيف خبز يقتات به الشيخ العجوز، وعلبة حليب لطفل رضيع، وابتسامة عاشق على كورنيش المنارة؟ هل ما جرى في مرفأ لبنان مقدمة للانفجار الكبير القائم والقادم في الداخل اللبناني؟.
الحديث عن الشق الجنائي في المشهد البيروتي عبر المرفأ الحزين، أمر لا شك مهم وحيوي، لكنه في غالب الأمر قد يكون حلقة من ضمن حلقات أخطر لمشروع الانفجار السياسي اللبناني الكبير المراد لدولة الأرز السنية والبهية.
لبنان ينفجر في واقع الحال من داخله، والمتآمرون يعرفون ذلك جيدا، ولهذا لا يكلفون أنفسهم عناء الدخول في حرب مباشرة مع لبنان، كما حدث في العام 2006 على سبيل المثال، وإنما يعمدون إلى إشعال التركيبة الطائفية اللبنانية الداخلية، لا ليدفعوا لبنان إلى حافة الهاوية، بل ليسوقوه من أسف بغير حكمة أو تعقل إلى حالة من حالات الانتحار الجماعي.
السؤال الذي سيجعل لبنان يتشظى من جديد في أعقاب انفجار المرفأ: "من سمح بتخزين آلاف الأطنان من مادة متفجرة، بل شديدة الانفجار على هذا النحو؟".
الجواب المعروف للقاصي والداني، هو أنه لا توجد دولة بالفعل في لبنان، بل شبه دولة من جهة، ونظام مليشياوي يجيد ركوب الدراجات النارية، وإشعال بيروت بالمخاوف، وتهديد الآمنين بسلاحه، والتحكم في مفاصل لبنان من المطار إلى المرفأ، وليخزن ما شاء له أن يخزن من مواد يستخدمها في تصنيع متفجراته، والتي تنطلق فوق رؤوس اللبنانيين في نهاية الأمر كما رأينا عصر الثلاثاء المشؤوم.
الحقيقة المرة في المشهد اللبناني، أن الدولة التي هي رسالة، باتت دالة لقوة إقليمية تعيث الفساد والخراب في الإقليم برمته، وتتلاعب بأقدار ومصائر أهله، وبما يمكنها من تحقيق معادلات خارجية لصالحها، ضمن أطر مواجهتها مع الغرب عامة، والولايات المتحدة الأمريكية بصفة خاصة .
الأسئلة الجنائية حول ما جرى في مرفأ بيروت سوف تبقى طويلا، وستكثر الروايات والقصص المثيرة للشكوك، فالغموض غير الخلاق هو سيد الموقف، لا سيما أن القوة الإقليمية الوحيدة التي ذهبت إليها الأذهان أول الأمر، أنكرت أي صلة لها بالتفجيرات، وإن كان هذا لا يعني لأي محقق ومدقق في المشهد أن يستبعدها بالمرة .
تفجيرات المرفأ لا بد أن قوة دولية كبرى قد رصدتها بأجهزة استشعاراتها بصورة أو بأخرى، وحكما هناك من لديه الحقيقة، وقد تغيب عمدا إلى حين الحلقة الثانية من ملامح الانفجار الكبير، ذاك الذي يمكن أن يعود بلبنان إلى دائرة الحرب الأهلية، وكأننا بالأمس كنا أمام حادث "البوسطة" القديم، في برمانة عام 1975 والذي أدى إلى إشعال الحرب اللبنانية الأهلية التي انتهت باتفاق الطائف .
هل مات اتفاق الطائف؟
علامة استفهام تأخذنا ضمن سياقات اللحظة الآنية في لبنان، وأغلب الظن أنه انتهى بالفعل، وأن القابضين على جمر الأحداث في لبنان اليوم، لا علاقة لهم بحال من الأحوال بأصحاب النوايا الطيبة الذين أرادوا انتشال لبنان من وهدته الطائفية عام 1990 في المملكة العربية السعودية .
التحليل السياسي للمشهد اللبناني يؤكد أننا أمام اهتراء سياسي داخلي، وقصور في فن السياسة الداخلية لإدارة الدولة اللبنانية، وقد جاءت استقالة وزير الخارجية الدكتور "ناصيف حتي"، قبل بضعة أيام كاشفة للمأساة التي تعيشها وزارة الإنقاذ، وربما هي وزارة أزمة، وملامح اضمحلال فكرة القلب الواحد، والتوجه اللبناني الموحد للخروج من الوضع الحالي .
لبنان سياسيا أمام مآزق عدة وليس مأزقا واحدا، فهناك حكومة مفروضة فرضا بقوة السلاح، وشعب صار يعيش على الطرقات متظاهرا معترضا على الأوضاع منذ بضعة أشهر، والجيش القوة الوطنية الوحيدة في لبنان، يحاول جاهدا أن لا ينزلق إلى هوة الخلافات السياسية الداخلية، لكنه عند لحظة بعينها سيكون عليه أن يعمد إلى الاختيار .
اختبارات لبنان قاسية ومريرة، فالنقص الحاد يضرب كل مقومات الحياة يضرب لبنان، من الخبز إلى الوقود، ومن العملة اللبنانية التي أضحت في قاع الهاوية، إلى الفيروس الشائه كوفيد- 19 الذي عاد لينتشر من جديد، وصولا إلى الموت المحمول جوا عبر رقائق نترات الأمونيوم القاتلة، والتي لم توفر مسجدا أو كنيسة، بيتا أو مستشفى، دار الحكومة أو دار البطريرك اللبناني، وجعلت الدماء اللبنانية تسيل على الطرقات.
هل هناك من هو معني بموت لبنان بالمعنى المجازي؟
من الواضح أن هناك من يحاول رسم خارطة جديدة للشرق الأوسط، فقد فسدت بضاعته في المرة الماضية، ومعها نظرية كونداليزا رايس عن الفوضى الخلاقة المحمولة على عملاء الديمقراطية، الذين جاءؤا من الخارج عبر تويتر وفيسبوك وغيرها من أدوات التواصل الاجتماعي حديثة العهد في ذلك الوقت .
الحلقة الجديدة من رسم خارطة الشر المحدثة، من الواضح أنها تستدعي القوى الإقليمية غير العربية من طهران مرورا بأنقرة وصولا إلى تل ابيب، وأدواتها هذه المرة داخلية، وليست خارجية، بمعنى أنها تسعى للتفكيك والتفخيخ، سياسيا ثم أمنيا، وبذلك يمكنها أن تمضي في فرض شروطها، وتوصيف خطوطها، ومن ثم نسج خيوطها كما تشاء في الحال والاستقبال .
هل لبنان هو الحلقة الأضعف في الجسد العربي، ومنه ستنطلق شرارة إعادة المشروع الممجوج والقاتل مرة أخرى في الشرق الأوسط؟
القوى الكبرى عادة تبقي استراتيجياتها شاخصة أمام أعينها لا تغيب، تسعى لتحقيقها بالسير المباشر أول الأمر، وإن عجزت لظرف أو آخر بعينه، عادة ما تلتف حول التضاريس الجغرافية أو الديموغرافية، لكن يبقى هدفها الاستراتيجي واضحا أمام أعينها، تتحين اللحظة المناسبة لتقتنصها من أجل تحقيق غرضها .
تجيء تفجيرات مرفأ لبنان قبل ساعات قليلة من إعلان المحكمة الدولية الخاصة بلبنان حكمها المنتظر بعد 15 سنة الموصول باغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، وتكاد الأصابع الخفية التي كانت وراء الحادث الآثم أن تشعر بالهول الأكبر الذي ينتظرها.
من أراد إثارة الغبار في الداخل اللبناني، وهل هناك عاصفة أشد تكمل زمن الانفجار الكبير؟
غدا لناظره قريب.