كرر الرئيس جو بايدن، في أكثر من تصريح له، أن "أمريكا قد عادت" للانخراط في قضايا العالم.
وأنها تسعى لمُمارسة "القيادة الأخلاقية له". وهو بهذا يرغب في استعادة مكانة الولايات المُتحدة ودورها المُتميز في إدارة العلاقات الدولية، ولكن هذه المُهمة لن تكون سهلة أو ميسورة، بل قد لا تكون مُمكنة أصلاً.
أول العوامل التي تؤثر على هذه الرغبة هو درجة الانقسام الداخلي والاستقطاب الاجتماعي في أمريكا بشكل غير مسبوق من قَبل، فخلال القرن العشرين انقسم الأمريكيون بعد الحرب العالمية الأولى ومُشاركة الرئيس ويسلون في مؤتمر الصلح بفرساي، حول ما إذا كان من مصلحة أمريكا الاستمرار في الاهتمام بالشؤون العالمية أم أن تعود إلى عزلتها والتركيز فقط على منطقة أمريكا اللاتينية، وانقسموا في الستينيات حول حركة الحقوق المدنية للأمريكيين السود التي قادها لوثر كينج، وحول استمرار الحرب في فيتنام.
ولكن الانقسام حول هذه القضايا لم يبلُغ قط أو يُقارب ما يحدث الآن في أمريكا، فنحن إزاء انقسام بين مُعسكرين حول قضايا تختلط فيها الأفكار والنعرات والمصالح الاقتصادية، وهو انقسام لم ينشأ بين عشية وضُحاها، بل تطور على مدى سنوات رئاسة أوباما "2009-2017"، وتصاعد بقوة تحت حُكم ترامب الذي ازدادت في عهده الفجوة بين مُعسكر يشمل اليمين المُحافظ، والمعادين للعولمة، والمناصرين للوطنية الاقتصادية والمكانة المتميزة للأمريكيين البيض، وبين أنصار المعسكر الليبرالي الديمقراطي، المدافعين عن دور أكبر لأمريكا في إطار العولمة الاقتصادية والسياسية، والحقوق المتساوية لكل المكونات الاجتماعية في شغل المناصب العليا للدولة.
ظهر هذا الاستقطاب في سياق الحملة الانتخابية لكل من بايدن وترامب، وفي نتائج الانتخابات، حيث حصل ترامب على 74 مليون صوت مقابل 81 مليون صوت لبايدن. وتبدو خطورة هذا الوضع في التأثير الذي تمارسه الأوضاع الداخلية في أي بلد على سياسته الخارجية. فالسياسة الخارجية هي امتداد للسياسة الداخلية. وهو أمر يتفهمه بايدن جيداً، وأشار إليه في خطابه بوزارة الخارجية في 5 فبراير الجاري.
ثُم إن دور القيادة يرتبطُ بصورة الدولة لدى الآخرين وعما إذا كانوا يعتبرونها نموذجاً ناجحاً ينبغي الاقتداء به أو العكس. وتتسم صورة أمريكا في العام الأخير لحُكم ترامب بالسلبية، بسبب الفشل في التعامل مع وباء كورونا والذي ترتب عليه أن عدد المصابين بهذا المرض في أمريكا بلغ 20% من المُصابين به في العالم، على الرغم من أن عدد سكانها لا يتجاوز 3% من سكانه.
وعلى المستوى الخارجي، اهتزت صورة أمريكا بين حُلفائها الأوروبيين بسبب أفعال ترامب وممارساته والتي كان منها مثلًا القرارات الانفرادية وعدم التشاور مع الدول الأوروبية، كقرار الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، ومنها تشككه في جدوى حلف الأطلنطي وتهديده بالخروج منه، الأمر الذي أثار مخاوف الدول الأوروبية بشأن استمرار المظلة النووية الأمريكية التي توفر الأمن لأوروبا، خاصة أنه بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فإنه لم يبقَ سوى دولة واحدة تمتلك السلاح النووي وهي فرنسا، ومنها فرض عقوبات اقتصادية على عدد من الدول الأوروبية بسبب الخلافات التجارية، ومنها تردده في مصافحة المُستشارة الألمانية ميركل أمام عدسات التلفاز، ما جعلها تقول "ألا ترغب في مصافحتي السيد الرئيس؟"، ومنها العبارات الفظة التي وجهها إلى القيادات الأوروبية التي كشفت عن عدم احترامه لهُم.
وتظهر هُنا مُفارقة ما بين رغبة الرئيس بايدن في إحياء التحالف الغربي وجوهره توثيق العلاقات مع الحلفاء الأوروبيين وتنشيط دور حلف الأطلنطي، ومشاعر عدم الثقة لدى عدد من القيادات الأوروبية التي تولدت في عهد ترامب.
فرغم التغيير الكبير في أسلوب الخطاب السياسي لبايدن تجاه أوروبا فإن الأوروبيين يتحسبون لإمكانية عودة ترامب أو من هو على شاكلته بعد أربع سنوات، وأن عليهم أن يُخططوا لأنفسهم وفقًا لمثل هذا الاحتمال. وكان أهم من عبر عن التخوفات الأوروبية الرئيس الفرنسي ماكرون، الذي أكد في مُداخلته في مؤتمر ميونخ للأمن يوم 19 فبراير الجاري "أن أفضل مُشاركة مُمكنة لأوروبا في حلف الناتو هي أن تكون أكثر مسؤولية عن أمنها واستقلالها الاستراتيجي"، مُحذراً من أن استمرار اعتماد أوروبا في ضمان أمنها على الولايات المُتحدة في إطار الناتو قد يُعرضها لموقف أن تجد نفسها بدون حماية، خصوصًا أن واشنطن أصبحت أكثر اهتماماً بالمُحيط الهادئ وبمناطق بعيدة عن أوروبا.
وتقود هذه الإشارة إلى الدور المُتصاعد للصين في النظام العالمي وتأثيره على قيادة أمريكا، خاصة في إطار التحالف الاستراتيجي الروسي الصيني، لقد أصبحت الصين مُنافساً شرساً لأمريكا في إجمالي حجم الناتج القومي، ونسبة المُشاركة في إجمالي الناتج العالمي، وفي مجالات الاتصالات والسلاح والفضاء الخارجي، إضافة إلى ذلك النجاح الذي حققته في مُكافحة وباء مرض كورونا وعودة اقتصادها إلى النمو في الوقت الذي ما زالت تُعاني فيه أمريكا من الوباء صحياً واقتصادياً.
ولهذه الاعتبارات، فإن مُهمة بايدن ليست سهلة، وسوف يكون عليه أن يتحرك بقوة داخلياً وخارجياً وسوف تتوقف النتيجة على ما سوف يقوم به هو، وما سوف يقوم به الآخرون.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة