تجارة «بريكس» بالعملات المحلية.. طموح تنافسي لنظام متعدد الأقطاب

يشهد العالم الاقتصادي ديناميةً متزايدةً من دول مجموعة «بريكس» نحو تقليص الاعتماد على الدولار في التجارة البينية.
قبيل قمة «بريكس 2025» في مدينة ريو دي جانيرو بالبرازيل خلال يومي 6 و7 يوليو/تموز 2025؛ من المقرر أن تكثف الدول الأعضاء تسوياتها التجارية بعملاتها المحلية، حيث أكد دبلوماسيون أن "بريكس" تهدف إلى التركيز على تجارة العملات الوطنية؛ وفق ما أوردت منصة الأسواق الناشئة "IntelliNews". ويُعد هذا تحولًا استراتيجيًا ملموسًا، يضع السيادة المالية على رأس الأولويات.
تترأس البرازيل هذا العام تكتّلاً بات يُمثّل 48.5% من سكان العالم مع ناتج محلّي إجمالي مشترك قدره 28.5 تريليون دولار و25% من الصادرات العالمية. وفي التجارة الدولية، تُمثل دول البريكس 24% من إجمالي التبادلات العالمية.
وصعدت حصة مجموعة "بريكس" من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 0.64 نقطة مئوية في 2024 ووصلت إلى ذروتها منذ تأسيس المجموعة عند 36.8%؛ وفقا لدراسة أجرتها وكالة "نوفوستي" استنادا إلى بيانات صندوق النقد الدولي. وفي الوقت نفسه، انخفضت حصة مجموعة السبع G7 في الاقتصاد العالمي إلى 28.86%. وفي عام 2024، توقع صندوق النقد الدولي أن تسجل جميع دول "بريكس" نمواً اقتصادياً إيجابياً، بمعدلات تتراوح بين 1.1% إلى 6.1%.
وتستحوذ مجموعة "بريكس" على ما يقرب من 72% من احتياطيات العالم من المعادن الأرضية النادرة، و43.6% من إنتاج النفط العالمي، و36% من إنتاج الغاز الطبيعي حول العالم، و78.2% من الإنتاج العالمي للفحم.
ومن المتوقّع أن تتوسّع المجموعة أكثر فأكثر، بعد أن أعربت 40 دولةً على الأقلّ عن اهتمامها بالانضمام إلى التكتّل بدءاً من العام 2024.
تحولات ملموسة في التجارة بالعملات المحلية
إن مشروع فك الارتباط بالدولار الذي تقوده بريكس لم يعد فكرة نظرية، بل تحول تدريجي مدعوم بمنصات دفع مستقلة، وبنك تنمية متعدد العملات، ومبادلات تجارية فعلية بعملات محلية. ورغم وجود تحديات بنيوية وسياسية، فإن تطور هذا المسار سيبقى أحد أهم ملفات الاقتصاد العالمي خلال العقد المقبل.
بحسب تقرير نشره موقع Watcher.Guru في يونيو/حزيران 2025، فإن نسبة المعاملات التجارية داخل دول بريكس التي تتم بالدولار الأمريكي انخفضت إلى نحو 33% فقط، في مقابل أكثر من 67% تُسوى بالعملات المحلية مثل اليوان، الروبل، الروبية، والراند. وتشير التوقعات إلى إمكانية تجاوز هذه النسبة 70% بنهاية العام الجاري، مدفوعة باتفاقات ثنائية جديدة ومنصات دفع رقمية بديلة.
في السياق ذاته، أكدت منصة The Silk Road Times أن ما يزيد عن 90 دولة خارج بريكس بدأت بالفعل إجراء صفقات تجارية بالعملات الوطنية مع أعضاء المجموعة، في مؤشر على تنامي الثقة بالمنظومة المالية البديلة.
من جهته، أكد السفير البرازيلي لدى الهند، كينيث نوبريغا، على أن مسألة العملة الموحدة "بعيدة المدى"، لكنه أشار إلى أن "التجارة بالعملات المحلية تعمل بالفعل".
ويُعد استخدام العملات المحلية في التجارة بين دول بريكس خياراً عملياً بدأ تطبيقه فعلاً، حيث أبرمت دول مثل روسيا والهند والصين اتفاقيات ثنائية لتجاوز الدولار في العديد من التعاملات، وذلك في مسعى لتعزيز نظام مالي عالمي متعدد الأقطاب.
- قمة ريو المرتقبة.. «بريكس» تعزز التبادل التجاري عبر العملات الوطنية
- الإمارات في اجتماع وزراء الطاقة لـ«بريكس».. تعزيز للشراكات الاستراتيجية
عملة موحدة.. طموح مستقبلي
قد تكون عملة «بريكس» الورقية ممكنة؛ لكنها عملية تستغرق سنوات من التحضير، حيث تتطلّب إنشاء بنك مركزي جديد واتفاقاً بين الدول الأعضاء في «بريكس» على التخلص التدريجي من عملاتها السيادية الخاصة بها. ومن المرجح أن تحتاج أيضاً إلى دعم صندوق النقد الدولي؛ لتكون العملة ناجحة على الصعيد الدولي، وهو ما ترفضه المجموعة في الأصل؛ إذ إنها تتهم الصندوق بأنه أداة تعمل لمصلحة الغرب.
كما تحتاج العملة الورقية إلى أن تكون مغطاة بالذهب بوصفه وسيلة لإبراز قوتها. ويتحدث محللون في هذا الإطار عن أنها يفترض أن تكون مغطاة بالذهب بما نسبته 40%، مقابل 60% من عملات دول "بريكس".
ولكن، نظراً إلى أن الصين هي أكبر اقتصاد في مجموعة "بريكس" -إذ إنها تمثّل وحدها 69% من إجمالي الناتج المحلي لـ"بريكس"- فمن المفترض أن تهيمن عملة اليوان على سلة العملات؛ الأمر الذي سيخلق اختلافاً كبيراً بين الأعضاء، خصوصاً الهند التي لا يتوقع تأييدها لهذا الحل في ضوء علاقاتها غير المثالية مع الصين.
من هنا، يرى محللون أن عملة "بريكس" لن تكون عملة في حد ذاتها، بمعنى أنها لن تتخذ شكلاً مادياً، إنما ستكون افتراضية. ومن المرجح أن تُستخدم حصرياً على منصة الدفع المسماة "إم بريدج".
و"إم بريدج" هي منصة مدفوعات تجريبية طوّرها بنك التسويات الدولية، إلى جانب البنوك المركزية في الصين وهونغ كونغ وتايلاند والإمارات العربية المتحدة، وستعمل بوصفها بوابة للتسويات بالعملات الرقمية للبنوك المركزية.
وفي حالة "بريكس" ستعمل «إم بريدج» بديلاً لمنصة الدفع الأكثر استخداماً اليوم، المسماة نظام جمعية الاتصالات المالية بين البنوك العالمية (سويفت).
منصات دفع بديلة.. وتكامل نقدي متدرج
أحد أبرز أعمدة هذا التحول يتمثل في تطوير منصات دفع مستقلة عن الغرب. تقود الصين هذا التوجه عبر توسيع استخدام منصة CIPS لتسوية المدفوعات باليوان، والتي تُستخدم اليوم في أكثر من 80 دولة. أما روسيا، فتركز على تعزيز شبكة SPFS، والتي توسعت بشكل كبير منذ فرض العقوبات الغربية بعد الأزمة الأوكرانية.
إلى جانب ذلك، تعكف دول المجموعة منذ مارس/آذار 2024 على تطوير منصة "BRICS Pay"، وهي منصة قيد التطوير للتسويات الداخلية عبر الحدود، والتي من المتوقع أن تتيح قريبًا إجراء معاملات فورية ومتعددة العملات بين البنوك المركزية والمؤسسات التجارية، دون الحاجة للمرور بأنظمة غربية مثل "سويفت".
نظام الدفع الجديد - BRICS Pay - يظهر في وقت تسعى فيه الدول، وخاصة النامية، إلى حماية سيادتها الاقتصادية بشكل أفضل مع السعي إلى توسيع التعاون.
ووفق تقرير نشره مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية (CIRSD)، فإن هذه المنصة قد تصبح النواة المالية لنظام بريكس المستقل في حال نجح الدمج التقني مع أنظمة الدفع الوطنية مثل PIX البرازيلية وSFMS الهندية.
بنك التنمية الجديد.. بديل تمويلي تنافسي
فيما يؤدي "بنك التنمية" (NDB)، الذي تأسس عام 2015، دورًا متزايدًا في تمويل مشاريع البنية التحتية داخل دول بريكس والدول الشريكة، باستخدام عملات محلية بدلاً من الدولار. ويؤكد تقرير لـBusiness Insider أن البنك أصدر مؤخرًا سندات مقومة بالروبل واليوان، ويموّل حاليًا أكثر من 30 مشروعًا بعملات محلية في آسيا وأفريقيا.
وبعد مرور عقد على انطلاقه، تبلغ تمويلات البنك 39 مليار دولار في 122 مشروعاً بالدول الأعضاء.
وقد أعلنت رئيسة بنك التنمية الجديد الذي تديره مجموعة "بريكس"، ديلما روسيف، في أكتوبر/تشرين الأول 2024، اعتزام البنك بدء تقديم التمويل لاستثمارات القطاع الخاص في الدول أعضاء مجموعة "بريكس" بالعملات المحلية.
البنك سيركز على ثلاثة مجالات رئيسية في السنوات القادمة وهي التنمية المستدامة والتكنولوجيا، وتوسيع أنشطة البنك في الجنوب العالمي، إلى جانب السعي بشكل متزايد لتمويل القطاع الخاص بالعملات المحلية، مشيرة إلى أن الهدف الرئيسي هو تطوير البنى التحتية في جميع المجالات مع التركيز بشكل خاص على الاستدامة وخاصة في مكافحة آثار تغير المناخ عبر الاستثمار في الطاقة المتجددة وطاقة الرياح والطاقة الشمسية والكهرومائية وشبكات النقل وغيرها.
استشراف نظام مالي متعدد الأقطاب
لا تغيب عن المشهد ردود الفعل الغربية. فقد هدّد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بفرض رسوم جمركية بنسبة 100% على الدول التي تتخلّى عن الدولار في معاملاتها، بحسب تقرير لـMarkets Insider. هذا التهديد يعكس قلقًا أمريكيًا متزايدًا من فقدان الدولار لموقعه المهيمن في التجارة العالمية.
ورغم التحديات، تشير الاتجاهات الراهنة إلى تراجع تدريجي في هيمنة الدولار، في مقابل صعود أنظمة دفع جديدة واستخدام أوسع للعملات المحلية. ووفق استطلاع رأي أجرته وكالة رويترز في يونيو/حزيران 2025، فإن 38% من البنوك المركزية حول العالم تخطط لزيادة احتياطاتها من الذهب أو اليوان، مقابل 26% فقط للدولار.
هذا التحول لا يعني نهاية فورية لهيمنة الدولار، لكنه يشير بوضوح إلى أن النظام المالي العالمي يسير نحو التعددية. ودول بريكس، بخطواتها التراكمية والمدروسة، باتت فاعلًا رئيسيًا في هذه المرحلة الانتقالية.