بريطانيا تراهن على «دارت 250».. مسيرة صغيرة تُعيد رسم موازين الحرب
في مواجهة عالم يتغير على وقع المسيرات، تبحث بريطانيا عن «قوة الفتك الرخيص»، محاولة التكيف مع المتغيرات الجديدة، التي باتت تصوغ ملامح الحرب الحديثة.
سعيًا لتحقيق هذا الهدف، يشتغل مهندسو شركة «موديني» على إنتاج أكثر أسلحة العصر إثارة للجدل: طائرات انتحارية فائقة السرعة تُبنى بسرية، يُتوقع لعا أن تغيّر شكل القتال وتفتح الباب أمام حرب تُخاض فيها المعركة بين «روبوت وروبوت».
وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، فازت «موديني» بعقد بقيمة 7.5 مليون جنيه إسترليني لتزويد الجنود البريطانيين في إستونيا بعدد غير معلَن من طائرات «دارت 250»، سيُنقل الكثير منها إلى بلدة «تابا»، على بُعد ساعتين فقط بالسيارة من الحدود الروسية، حيث يتمركز فوج بريطاني.
وفي الأسبوع الماضي، كانت الشركة تختبر «دارت» في ميدان رماية غرب اسكتلندا، وتخطط لبدء شحن الطائرات إلى إستونيا قريبًا.
ويعد ظهور الطائرات المسيّرة في الحروب التحوّل الأبرز في طبيعة النزاعات هذا القرن؛ فالطائرات الانتحارية — طائرات صغيرة أو مروحيات رخيصة محمّلة بالمتفجرات، تطير نحو هدفها وتنفجر عند الاصطدام — تمثل الجانب الأكثر إثارة للجدل في هذا التهديد الجديد. وقد طلبت دول من مختلف التحالفات هذه التكنولوجيا الرخيصة: الولايات المتحدة، الصين، الكوريتان، المغرب، بولندا.
في يناير/كانون الثاني 2023، طلبت وزارة الدفاع البريطانية من «موديني» إنتاج طائرة مسيّرة لمساعدة أوكرانيا على صدّ تقدم الجيش الروسي. وأرادت الحكومة البريطانية شركات قادرة على تصميم وبناء «مُؤثِّرات أحادية الاتجاه» منخفضة التكلفة — وهو المصطلح العسكري للطائرات الانتحارية.
وأسّس «موديني» نِك شارب وأوين كاندي، وكلاهما خدم سابقًا في الجيش. وحتى ذلك الوقت، كانت الشركة تعمل كاستشاري هندسي، لكنّها صممت النسخة الأولى من «دارت»، وبدأت شحنها إلى أوكرانيا في سبتمبر/أيلول من العام نفسه. ويُقال إن الطائرات استُخدمت ضد أهداف داخل الأراضي الروسية، لكن الشركة رفضت تأكيد ذلك.
يقول جيمي بلاك، مدير الاستراتيجية في الشركة، إن نسخة «دارت 250» الحالية تختلف كليًا عن تلك التي أُرسلت إلى أوكرانيا: «النسخة الأولى استخدمت بعض المكوّنات الصينية، أما الآن فكل شيء مُصنَّع في بريطانيا. لم يكن بالإمكان إطلاقها بالمقلاع أيضًا، أما النسخة الجديدة فأصبحت أقوى بكثير»، كما أنها تحمل ذخيرة أكبر.
طريقة عمل «دارت 250»
قبل الإطلاق، يقوم الجنود بتركيب الأجنحة على جسم الطائرة، بعدها يحددون الهدف ويرفعونه للطائرة عبر حاسوب محمول ومنفذ USB-C في مقدمتها.
ويمكن تجهيزها للإطلاق خلال 10 دقائق فقط. ويبلغ مدى الطائرة 250 كيلومترًا — تقريبًا المسافة بين تابا وسانت بطرسبرغ.
يُطلق الجنود الطائرة إما من فوق عربة صغيرة تشبه «عربة ألعاب للأطفال»، أو عبر مقلاع عسكري. وتصل العربة إلى سرعة 90 ميلًا في الساعة خلال 2.5 ثانية — أسرع من كثير من سيارات الفورمولا 1 — وتسير لمسافة 200 متر حتى تكتسب الطائرة سرعة الإقلاع.
وبعد الإقلاع، تصل سرعة «دارت» إلى أكثر من 270 ميلًا في الساعة. تطير آليًا — خلافًا لكثير من الطائرات المسيّرة الأخرى التي يتم التحكم فيها عن بُعد — وعلى ارتفاع بين 50 و100 قدم، وبجناحين بعرض 2.9 متر.
«إنها صغيرة وسريعة وتحلّق على ارتفاع منخفض، لدرجة تجعلها شبه محصّنة ضد نيران الأرض»، يقول بلاك، مشيرًا إلى أنها مصممة لحمل 20 كغم من المتفجرات وضرب مستودعات الوقود والذخيرة والمعدات والقواعد العسكرية.

يقول بلاك وشارب إن «دارت» تنافس صواريخ كروز التقليدية، التي عادة ما تكون باهظة الثمن وبطيئة الإنتاج ومطلَقة من الطائرات أو السفن أو الأرض.
ورغم أن الشركة لا تكشف سعر الطائرة، إلا أنها تقول إنها تمثل 10% فقط من تكلفة البدائل. يقول شارب: «ندخل عصرًا جديدًا من الحروب يعتمد على الكثافة والاستنزاف. وهذه هي الطريقة الوحيدة لبدء مواجهة المعتدي، مثل روسيا».
مقر «موديني» لا يمكن وصفه بمصنع؛ فالمساحة تعادل مساحة منزل صغير، وغرفة التجميع التي يعمل فيها ستيرز وأربعة مهندسين — وتمر عبرها كل طائرة — ليست إلا بحجم غرفة معيشة. يتزاحمون حول بعضهم ويستمعون إلى الموسيقى الكلاسيكية أثناء العمل.
يقول بلاك إن الشركة ستنتقل قريبًا إلى موقع آخر، لأسباب أمنية؛ فالمرفق الحالي يقع بجانب طريق ريفي، ويتقاسم مجمعه الصناعي مع مصنع أغذية للحيوانات. وهو بعيد عن أن يكون «فورت نوكس».
وقد تعرضت «موديني» بالفعل لهجمات سيبرانية مدعومة من دول؛ إذ تتعرض لنحو 400 محاولة اختراق شهريًا. «فاتورة تكنولوجيا المعلومات لدينا مرعبة».
خطط التوسع
السبب الآخر للانتقال هو خطط التوسع؛ فالشركة تطمح لإنتاج مئات الطائرات شهريًا، لتصبح — كما يقول شارب — «رائدًا عالميًا في تصميم الأنظمة الذاتية».
ويشهد السوق العالمي للطائرات المسيّرة توسعا كبيرا: شركة «أندوريل» الأمريكية ضاعفت قيمتها إلى 30 مليار دولار في يونيو، وشركة «هيلسينغ» الألمانية — التي تنتج طائرة انتحارية تعمل بالذكاء الاصطناعي — بلغت قيمتها 12 مليار يورو.
في أوكرانيا، تُستخدم الطائرات الانتحارية على نطاق واسع منذ سبتمبر/أيلول 2022، عندما بدأت روسيا بجلب طائرات «شاهد» الإيرانية بانتظام. كانت أوكرانيا تعتمد آنذاك على مزيج من طائرات تجارية رخيصة مسيّرة ومعدات غربية باهظة، مثل «سويتش بلايد» الأمريكية و«بيرقدار» التركية.
وبينما لا تزال روسيا تستخدم «شاهد»، طورت مؤخرًا طائرات أصغر مرتبطة بالطائرة الأم بواسطة كابل ألياف بصرية يمتد لعدة كيلومترات، يتدلّى أثناء الطيران. هذه الطائرات «سلكية»، ولا يمكن للقوات الأوكرانية التشويش على إشارتها.

أما كييف، فتعتمد بشكل متزايد على طائرات محلية زهيدة التكلفة، مثل «ليوتي» المماثلة لشاهد، وعلى طائرات اعتراض مثل «ستينغ»، وهي مروحية صغيرة تعترض الطائرات الروسية بسرعة تصل إلى 200 ميل في الساعة.
يقول شارب إن كل ذلك يشير إلى اتجاه واحد: «نحن على بُعد عامين أو ثلاثة فقط من حروب يقاتل فيها الروبوت الروبوت».
لكنّه يرى أن التداعيات الإنسانية ستكون أخطر؛ فالأسلحة الذاتية تتيح للجيوش فصل الفعل عن نتائجه؛ يرسل الجندي الطائرة وينسى أنها ستقتل أحدًا. تصبح الحياة البشرية مجرد «بكسلات» على الشاشة.
مخاوف أخلاقية
وعندما سئل عن المخاوف الأخلاقية، قال: «لا أعتقد أنه يمكننا إيقاف ذلك».
قبل تأسيس «موديني»، درس شارب الهندسة الميكانيكية، ثم خدم 11 عامًا في الجيش، وقام بثلاث جولات في أفغانستان. وخدم طيارًا في «الفوج الثالث» إلى جانب الأمير هاري، وقاد مروحيات «لينكس» و«أباتشي».
في نهاية خدمته عام 2014، كان مشاركًا بشكل كبير في إغلاق قاعدة «كامب باستيَن» في هلمند، التي كانت يومًا أكبر قاعدة بريطانية في العالم.
ويتذكر وقوفه فوق حاوية شحن في الصحراء ممسكًا بهاتف يعمل عبر الأقمار الصناعية لتنسيق مهمة الإغلاق. يقول: «أعتقد أنني كنت آخر ضابط بريطاني يغادر القاعدة». لقد أغلق حربًا — وها هو اليوم يشعل أخرى.
وعن جاهزية بريطانيا لهذا العصر الجديد، يقول شارب: «نحن في وضع سيئ للغاية. ليس لدينا قاعدة صناعية، ووزارة الدفاع بطيئة جدًا في المشتريات».
تطلب الأمر من الشركة إعداد كميات هائلة من الوثائق لضمان السلامة اللازمة للطيران. «لدينا خمس طائرات جاهزة منذ يونيو/حزيران، لكن الأمر استغرق كل هذا الوقت لتجاوز الروتين».

وتفكر الشركة الآن في نقل الاختبارات المستقبلية إلى الشرق الأوسط أو أمريكا الشمالية أو جنوب أوروبا.
ويُظهر بلاك وجهة نظر الوزارة: «خطر أن يحدث خطأ وأن يصيب شيء ثقيل وسريع طرفًا ثالثًا ليس صفرًا. إذا أطلقنا من جنوب ويلز — كما فعلنا من قبل في ميدان بيمبري ساندر — فإننا قد نضرب فرنسا نظريًا».
وأشار شارب إلى نموذج صغير لطائرة على الطاولة — أسطوانة رمادية بسيطة بأجنحة تشبه لعبة أطفال. إنها منتج «موديني» الجديد: طائرة اعتراض. ستطير بسرعة 0.9 ماخ (حوالي 690 ميلًا في الساعة — «سريعة بشكل جنوني»)، بمدى 50 كيلومترًا، مهمتها إسقاط الطائرات المسيّرة. ويتوقع أن تحلّق النسخة النموذجية مطلع العام المقبل.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMjE4IA== جزيرة ام اند امز