مجلس التعاون الخليجي هو القِبلة الرابعة، التي توجهت لها المملكة المتحدة هذا العام في رحلتها لنسج اتفاقيات تجارة حرة خاصة بها بعد "استقلالها" عن الاتحاد الأوروبي.
خطت قبله نحو الهند والمكسيك وكندا لذات الغرض، ولكل مسار تحديات لا تقلل من جدواه، وإنما تفتح أمام المفاوضين آفاقا للتعاون حتى خارج معادلة الاقتصاد.
وزيرة التجارة البريطانية، آن ماري تريفيليان، التي بدأت المحادثات من الرياض، تقول إن الاتفاق مع الدول الخليجية الست "السعودية والإمارات والبحرين والكويت وعمان وقطر"، هو فرصة هائلة لتحرير التجارة مع سوق متنامية بالنسبة إلى الشركات البريطانية، وبوابة كبيرة لتعميق العلاقات مع منطقة حيوية للمصالح الاستراتيجية.
دول مجلس التعاون تعتبر ثالث أكبر وجهة تصدير لبريطانيا من خارج الاتحاد الأوروبي، بعد الولايات المتحدة والصين. وقد بلغ إجمالي صادراتها إلى هذه الدول أكثر من 40 مليار دولار عام 2019.
وتأمل لندن زيادة هذه الأرقام لمستويات قياسية، ولكن الأمر ليس سهلا، ولا يخلو الطريق إلى التجارة الحرة بين الطرفين من الصعوبات.
قبل كل شيء تحتاج المملكة المتحدة إلى التخلي عن "ذهنية الإمبراطورية" في نسج علاقاتها مع المنطقة العربية. كما يتوجب عليها تفهم أولويات دول الخليج في تعاملاتها مع العالم الخارجي.. خاصة أن هذه الأولويات قد تختلف بين دول مجلس التعاون نفسها أحيانا، لأسباب تتعلق بالمصلحة أو الضرورات الوطنية.
المملكة المتحدة بعد انفصال لندن وبروكسل، تمتلك مرونة كبيرة في التفاوض مع دول العالم على اتفاقيات تجارية أو سياسية أو غيرها.
لم تعد بريطانيا محكومة بمعايير كثيرة يتمسك بها الاتحاد الأوروبي وتلتزم بها دوله.. فإن أحسنت حكومة بوريس جونسون استغلال هذه المرونة قد تصل إلى ما تصبو إليه مع مجلس التعاون ودوله الست.
والمرونة التي يجب أن تتمتع بها لندن في التفاوض لا تنحصر في تكييف قوانينها وخططها الاقتصادية لتحتوي اتفاقية تجارة حرة مع دول مجلس التعاون.. هي تحتاج أيضا إلى تفهم السياسات الخارجية للدول الست، وتلك النقاط التي ترتبط فيها التوجهات الاقتصادية لهذه الدول مع الخطط السياسية أو العلمية أو حتى الاجتماعية والبيئية.
ولا نذيع سرًّا عندما نتحدث عن تلك التبادلية والتفاعلية بين الاقتصاد والسياسة في العلاقات الدولية.. فالتجارة المزدهرة بين بلدين قد تمنع حربًا بينهما، كما يمكنها أن تضع سقفا لأي خصومة سياسية أو دبلوماسية يمران بها.. ولكن الوصول إلى هذه الدرجة من التوافق بين الدول يحتاج إلى تنازلات وتضحيات.
انطلاق المفاوضات مع دول مجلس التعاون الخليجي تزامن مع صدور أول تقرير مختص حول آثار "بريكست" على الاقتصاد البريطاني.. صحيح أنه لم يمر وقت طويل على وقوع هذا الانفصال بين لندن وبروكسل، ولكن التقرير يحكي قصة هذا التأثر منذ أن بدأت الحملات الإعلامية لاستفتاء الخروج عام 2016 وصولا إلى ما يحدث اليوم.
التقرير يقول إن آثار "بريكست" اختلطت مع آثار الجائحة، التي ألمّت ببريطانيا والعالم بين 2019 و2021.. ولكن ذلك لا يعني أن الخروج من الاتحاد الأوروبي لم يحمل تغيرًا على ملامح اقتصاد المملكة المتحدة، ولم يفرض اتجاهات جديدة في معادلات الاستثمار والدخل بمختلف القطاعات والسياسات المالية والتجارية، التي تعدها الحكومة.
تقرير مركز "Resolution" يقول إن الاقتصاد البريطاني لن يطاله تغير جوهري في هيكليته.. هو لن يتحول من طبيعة إلى أخرى، ولكنه سيخضع إلى تبدلات صناعية تواكب "استقلاله" عن الاتحاد وتلبي احتياجات الإنتاج اللازم للتصدير أو الاستهلاك المحلي.. وفي المحصلة ستكون البلاد أقل إنتاجية وأقل انفتاحًا مع نهاية العقد الحالي.
ربما يكون الفقر هو الأبرز على قائمة أضرار "بريكست" بالنسبة لبريطانيا.. فالتقرير يتوقع أن تزداد رقعة الفقر في المملكة المتحدة، ولكن في مناطق أكثر من غيرها.. إضافة إلى أن رواتب العمال سوف تتراجع مقابل القدرة الشرائية، وهذا التراجع محمول بشكل أساسي على خارطة الإنتاج التي ستزيد في قطاعات معينة وتتراجع في أخرى.
ما جاء به التقرير من معطيات مرفقة بأرقام، تعيش الحكومة البريطانية في ظله اليوم.. أما التوقعات فهي تسعى للوصول إلى الجيد منها، وتجنب السيئ.
إبرام اتفاقيات تجارة حرة مع دول وتكتلات حول العالم هو أحد الأبواب، التي يجب على لندن طرقها والاجتهاد خلفها للوصول إلى هذا الهدف، شرط ألا تستغني عن الجار الأوروبي.. فالاتحاد الأوروبي أكبر وأقرب شريك تجاري للمملكة المتحدة، وخسارته يصعب تعويضها.. كما أنها تبعث القلق في أي دولة مهتمة بإبرام تجارة حرة مع بريطانيا.. خاصة إنْ كان السبب "انقلاب" لندن على الاتفاقية المبرمة مع بروكسل بعد "بريكست"، وإصدارها قانونًا يتيح نقض بروتوكول أيرلندا الشمالية المذكور في الاتفاقية.
ما أعدته حكومة بوريس جونسون وقدمته للبرلمان في هذا الإطار يترقب نتائجه جميع دول العالم، وليس فقط الاتحاد الأوروبي.. فهو "انتهاك" للقانون الدولي، وفق مختصين، كما أنه يهدد وحدة المملكة المتحدة، ويعرضها لخطر انهيار اتفاق السلام الذي أبرم بين جزأي الجزيرة الأيرلندية في عام 1998، وأنهى ثلاثة عقود من الحرب الأهلية.
ثمة أمر آخر بات محط تساؤل في التعامل الاقتصادي مع بريطانيا والغرب كافة، وهو حدود معاقبة المستثمرين، الذين ينتمون لدول قد تقع خصومة بينها وبين دول القارة العجوز، كما حدث مع الروس بعد الحرب الأوكرانية.
لقد أثار هذا الأمر مخاوف مشروعة عند الأفراد والشركات، وتهدئتها ضرورة لبناء ثقة اقتصادية بين الدول.
في نهاية المطاف، بريطانيا هي الطرف الأكثر حاجة إلى الانفتاح الاقتصادي على العالم اليوم، وهي مَن تسعى لإبرام اتفاقيات تجارة حرة مع الدول والتكتلات.
الكرة في ملعبها لجهة مَن تريد وماذا يمكن أن تقدم له.. وفي ملعب مَن يتلقى عرضها ليضع المزايا والمخاوف في كفة ميزان المصلحة الوطنية على مستويات عدة ولآجال ليست قصيرة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة