بريطانيا هي الصانع الأول للحضارة الغربية، والمهندس الأول لصورة العالم كما نراها اليوم، وباقي القوى الغربية كانوا في موقع المساعدين.
يقول العالمون بخفايا الحضارة الغربية إن الأرستقراطية البريطانية تفكر وتخطط لقرون قادمة، وليس في مفرداتها التخطيط أو التفكير لعقود أو سنوات؛ لذلك عندما تميل الملكة وطبقتها الحاكمة في اتجاه معين، وتنحاز إلى اختيار معين؛ فلابد من النظر البعيد في هذا الاختيار وذلك الاتجاه، نظر يمتد لقرون قادمة، وليس لمجرد سنوات أو عقود.
الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي ليس مسألة اقتصادية من حيث المكسب والخسارة، وإنما هو فعل حضاري بعيد المدى، يهدف إلى الحفاظ على جوهر الحضارة الغربية، وتجديدها لتكون قادرة على الحفاظ على صدارتها للمشهد العالمي لقرن قادم على الأقل.
بريطانيا هي الصانع الأول للحضارة الغربية، والمهندس الأول لصورة العالم كما نراها اليوم، وباقي القوى الغربية مثل فرنسا وإسبانيا والبرتغال وألمانيا كانوا في موقع المساعدين. الحضارة الغربية فكرا وفلسفة وأدبا وثقافة وفنونا هي صناعة أنجلوساكسونية؛ في جوهرها، وفي موقع القلب منها بريطانيا. وعالم اليوم الذي شكلته الحضارة الغربية هندسته بريطانيا العظمى، وصنعت صورته الحالية. وعندما نقول بريطانيا بالمعنى الحضاري؛ فهي تشتمل على أمريكا الشمالية وأستراليا؛ لأنهما امتداد إنساني وحضاري لتلك الجزيرة الصغيرة القابعة على الطرف الغربي لأوروبا.
في 18 فبراير 2017 وقف سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي مخاطبا قادة العالم الغربي في الاجتماع الثالث والخمسين لمؤتمر الأمن العالمي المنعقد في ميونخ-ألمانيا قائلا: إنه يأمل في أن القادة الذين يشعرون بتحمل المسؤولية سوف يسعون لإنشاء نظام دولي عادل، وهذا النظام العادل لابد أن يكون نظام ما بعد العالم الغربي post-West world order.
نظام ما بعد العالم الغربي حقيقة واقعة تحدد ملامحها الأرقام؛ فإذا نظرنا إلى الاقتصادات الأقوى عام 2050، سنجد أن الاقتصاد الأول في ذلك التاريخ سيكون الاقتصاد الصيني بناتج محلي إجمالي 58 تريليون دولار، يليه الهندي 44 تريليون دولار، ثم أمريكا 34 تريليون دولار؛ ثم إندونيسيا 10 تريليونات دولار، وبعد ذلك تأتي كل من البرازيل ثم روسيا 7 تريليونات دولار، ثم المكسيك واليابان وألمانيا 6 تريليونات دولار، وبريطانيا 5 تريليونات دولار، وبعد ذلك تأتي فرنسا والسعودية ونيجيريا ومصر. هذه الأرقام تقول لنا إنه من ضمن أقوى عشرة دول اقتصاديا بإجمالي 183 تريليون دولار هناك 7 دول خارج العالم الغربي بإجمالي 138 تريليون دولار، وثلاث دول في العالم الغربي بإجمالي 45 تريليون دولار. أي أن نصيب الدول الغربية لن يتجاوز ربع الاقتصادات العالمية الكبرى. وإذا نظرنا إلى سكان الأرض سنجد أن العنصر الأبيض الذي يمثل الحضارة الغربية تراجع بصورة مخيفة تنذر بالزوال؛ فقد كان يمثل نسبة 28٪ من سكان العالم عام 1916، إلى نسبة 18٪ من سكان العالم عام 2016.
الأرستقراطية البريطانية أدركت أن أوروبا ستدخل في مرحلة مخيفة من المشاكل الاقتصادية؛ بسبب الأعباء التي جاءت بها دول شرق أوروبا حين تم ضمها للاتحاد الأوروبي، وبسبب تراجع نسبة السكان البيض أمام زحف الهجرات من شمال أفريقيا، ومن الشرق عموما؛ ولذلك فإن المصير المحتوم لأوروبا هو التحول الحضاري الشامل الذي قد يخرجها من كونها قلب الحضارة الغربية؛ إلى كونها نموذجا للعولمة الباهتة المثقلة بالمشاكل والأزمات.
لذلك كانت رؤية الأرستقراطية البريطانية للحفاظ على مستقبل الحضارة الغربية أمام الزحف الاقتصادي للصين والهند، والزحف السكاني للعالم الإسلامي؛ أن تعيد إنشاء قلب جديد لهذه الحضارة المهددة بفقدان السيادة الكونية والصدارة العالمية، وذلك من خلال إعادة توحيد الأنجلوساكسون في كيان واحد؛ يعيد التوازن للعالم، ويواجه الصين والهند اقتصاديا، والصين وروسيا استراتيجيا، والعالم الإسلامي، ومعه أفريقيا، وأمريكا الجنوبية ديموغرافيا أو سكانيا.
لذلك يكون الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي "بريكست"، خروجا من جغرافيا أوروبا المثقلة بالمشاكل والأزمات، والتي تلبد سماء مستقبلها غيوما كثيفة، تصعب معها الرؤية الواضحة. وهذا الـ"بريكست" يكون في الوقت نفسه دخولا في صناعة تاريخ جديد للحضارة الغربية؛ يجمع الدول التي يديرها الأنجلوساكسون في أمريكا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا في كيان اقتصادي واحد، وقوة استراتيجية واحدة، تمثل القلب الجديد الذي يعيد ضخ دماء جديدة للحضارة الغربية تبقيها على قيد الحياة، وفي موقع الصدارة لقرن جديد.
لذلك لابد من وضع الصورة كاملة أمام أعيننا لتتضح الرؤية، هذه الصورة تشتمل على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مواجهة أمريكا بصورة شرسة جدا للصين، الخلاف العنيف بين بريطانيا وأمريكا من جانب وروسيا من جانب آخر، تصاعد مسألة الهجرة، وتصدرها للسياسة والثقافة في أمريكا وأستراليا ونيوزيلندا؛ حيث صارت الهجرة مسألة أمن قومي من الدرجة الأولى لإدارة الرئيس دونالد ترامب، وفي الوقت نفسه صارت قضية أيديولوجية عند المؤمنين بسيادة العرق الأبيض.
الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي ليس مسألة اقتصادية من حيث المكسب والخسارة، وإنما هو فعل حضاري بعيد المدى، يهدف إلى الحفاظ على جوهر الحضارة الغربية، وتجديدها لتكون قادرة على الحفاظ على صدارتها للمشهد العالمي لقرن قادم على الأقل. لذلك لا مناص منه، ولا بديل له، ولا يمكن فهم التحولات السياسية الكبرى في العالم بمعزل عنه.
* نقلا عن "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة