حسابات البريطانيين بعد البركسيت: بدأ موسم الحصاد المر
البريطانيون استفاقوا مرة واحدة على حقيقة خروج بلدهم من الحضن الأوروبي الجامع، وهم يستفيقون كل يوم على حقيقة التبعات المكلفة التي تسبب ويتسبب بها هذا الخروج.
كل الذين كانوا يعارضون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، يستعجلون هذا الخروج، ما عدا البريطانيين المعنيين ـ قبل غيرهم ـ بتنفيذ نتائج تصويتهم لصالح الخروج من البيت الجامع.
الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند يستعجل رئيسة الوزراء تيريزا ماي للانخراط في محادثات جدية للخروج، ومثله تفعل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.. فهؤلاء يرون أن امتداد حالة الانتظار من شأنها أن تضعف مسيرة الاتحاد الأوروبي، لكن الحكومة في 10 داوننغ ستريت لا تحبذ تجرع كأس السم دفعة واحدة، بل لعل التأجيل يمنحها فرصة النجاة.
البريطانيون جميعا، في الحكم والمعارضة، أصحاب النظرة الأوروبية الشمولية أو ذوو النزعة الانعزالية، باتوا يدركون اليوم مخاطر إدارة الظهر للجيران.. الحجج الاقتصادية التي يقدمونها في هذا المجال، تفوق إلحاحا المسوغات السياسية أو تلك المتعلقة بمكافحة الارهاب ومسائل الهجرة كهم أوروبي جامع.
بعد البريكست دخل الاقتصاد البريطاني انعطافة حادة؛ شركات ومصارف كبرى تبحث عن سبل للنجاة من التعثر الاقتصادي البريطاني، ولندن لم تعد المكان المفضل لعقد وإدارة الصفقات، أو لتوظيف الاستثمارات، والسوق العقاري يواجه أزمة حادة، بعد موجة هبوط دراماتيكية في اعقاب استفتاء البريكسيت، أوقفتها الحكومة بتخفيض معدل الفائدة بنسبة غير مسبوقة حتى في زمن الكساد والتضخم، لكن تخفيض معدل الفائدة سيف ذو حدين، إذ قد يعيد التوازن إلى السوق العقاري لكنه في المقابل يؤذي التوظيفات المالية.
في ظل هذا الوضع، نزل الجنيه الاسترليني من عليائه، ولم تعد عملة صاحبة الجلالة عصية على الأزمات. فمنذ فبراير الماضي، عندما تم الإعلان عن استفتاء حول عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، انخفض الجنيه الاسترليني بنسبة 15٪ مقابل الدولار الأمريكي، وفي أعقاب التصويت انخفضت قيمة الجنيه الاسترليني بنسبة 9٪. ثم، في بداية أكتوبر الماضي عندما دخلت الحكومة في مفاوضات الخروج هبط الجنيه مرة أخرى بنسبة 6٪.
هذه الأرقام التي تتداولها وسائل الإعلام البريطانية كخبز يومي، ويستشعرها المستهلك في كل تفاصيل حياته، تؤشر بحسب الدكتورة باولا سوباتشي، المتخصصة في الاقتصاد الدولي، في دراسة أعدتها للمعهد الدولي للدراسات الدولية، إلى ما سيكون عليه الاقتصاد البريطاني مستقبلا، خصوصا، وإن لدى بريطانيا عجزا كبيرا في ميزانها التجاري لصالح الاستيراد على حساب التصدير، وفي رأيها أن انخفاض سعر الجنيه لن يساعد التصدير، قياسا على ما جرت عليه العادة في هذا الاطار، فاليوم خرجت المنافسة التجارية خصوصا من مصادر لم تكن معروفة سابقا على القواعد النظرية القديمة.
يضاف إلى ذلك كما تقول الدكتورة سوباتشي، ضعف العملة يمثل إشكالية للاقتصاد مع ارتفاع مستوى المديونية، سواء في القطاعين العام والخاص. ففي المملكة المتحدة تقترب نسبة ديون الأسر من 87٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وتبلغ نسبة الدين الحكومي ٪108.
تقترح الباحثة في دراستها على الحكومة تقييم كل الخيارات المتاحة بجدية، وهذا يعني البحث عن نموذج لعلاقة جديدة مع الاتحاد الأوروبي، فالقطع النهائي مع الجيران سوف يؤدي مباشرة إلى تضعضع ثقة المستثمرين، وسيكون له تأثير سلبي على تدفقات رأس المال ما يعني تقويضا دراماتيكيا للنمو؛ فالمملكة المتحدة سوف تصبح أقل جاذبية كوجهة استثمارية، وبالتالي فإن الضمور سوف يلحق بالقوى العاملة. وفي هذا الإطار تتحدث تقارير أوروبية عن توجهات جديدة لدى المواطنين البريطانيين لاختيار العيش والعمل في دول أوروبية أخرى، بل وحتى السعي للحصول على جنسيتها.
وتحذر سوباتشي من أن سعر الجنيه الاسترليني سوف يشهد مزيدا من التقلص إذا ما استمرت السياسات الحكومية على حالها. فالعملات، في رأيها، لا تعكس فقط أنماط التجارة والديون، ولكنها تعبر أيضا عن ديناميات الجغرافيا السياسية، لذلك فإن مضاعفات هبوط الاسترليني ستتبدى على أكثر من وجه في المدى القصير.
وقد كانت قيمة الجنيه، خلال الـ 80 عاما الماضية، عرضة لمؤشر انحداري طفيف ولكن مستمرا، وقد بدأ ذلك منذ العام 1931 عندما تخلت بريطانيا عن معيار الذهب في تقييم عملتها، ولكن شاء الحظ، مثل انعدام وجود أصول بديلة وأهمية لندن في سوق رأس المال، أن يبقى الاسترليني عنصرا فاعلا في سلة العملات الرئيسية التي يعتمدها صندوق النقد الدولي. ولهذا السبب ظل الاسترليني وكيل النفوذ العالمي لبريطانيا، وظلت قيمته المعنوية أعلى من قيمته الفعلية.
وبالتالي فإن استمرار ضعف الجنيه، مع إدراج العملة الصينية في سلة عملات صندوق الدولي منذ بداية أكتوبر، سوف يؤدي في العام 2020 إلى إعادة تقييم جذرية لعملة المملكة المتحدة، ومثل هذه الخطوة ستمثل الخطوة الأخيرة على طريق خسارة بريطانيا لنفوذها الدولي السياسي والاقتصادي، الذي أسسته في العام 1944 باعتماد النظام المعروف باسم "بريتون وودز".
إذا العملات هي تعبير عن السيادة الوطنية، وهي تمثل أيضا حدود هذه السيادة في اقتصاد مفتوح، كما يقول مارتن وولف، وديناميات سعر الصرف تميل إلى أن تعكس الاختلافات بين السياسة المحلية والأسواق العالمية، ويجزم وولف بأن الاعتقاد بإمكانية صنع السياسات المحلية بمعزل عن بقية العالم، بحيث لا تحتاج إلى التنسيق أو التعاون، هو اعتقاد خاطئ للغاية، فمشاكل الاسترليني هي تذكير بأن المستثمرين الأجانب لديهم رأي غير مباشر في كيفية إدارة البلاد.
وتختم سوباتشي دراستها بالقول إن الاعتماد على أموال الآخرين يرسم الحد الطبيعي للسيادة الوطنية، فأي بلد يحتاج إلى تدفقات ثابتة وفقيرة لرؤوس الأموال.
بكلام آخر، يمكن القول: إن البريطانيين استفاقوا مرة واحدة على حقيقة خروج بلدهم من الحضن الأوروبي الجامع، وهم يستفيقون كل يوم على حقيقة التبعات المكلفة التي تسبب ويتسبب بها هذا الخروج.
aXA6IDMuMTM5LjcyLjE1MiA= جزيرة ام اند امز