الصدمة الكبرى تمثلت في الخسارة الفادحة لحزب العمال ورئيسه اليساري جيريمي كوربن.. فعلى عكس كل التوقعات جاءت النتائج لتكشف الغطاء عنه
خابت آمال كل من راهن على خسارة زعيم حزب المحافظين في بريطانيا بوريس جونسون وما ينجم عنها من متغيرات وعودة إلى الماضي والتخلص من الحمل الثقيل المتمثل في "بريكست"، أي الخروج من الاتحاد الأوروبي. فما حدث في الانتخابات لم يفاجئ الكثيرين بفوز جونسون، بل بحصوله وحزب المحافظين على غالبية ساحقة تؤهله لتشكيل حكومة تتفق مع تطلعاته دون الحاجة إلى دعم من أي حزب آخر، وبالتالي في المضي في تنفيذ سياساته دون خوف من إعاقتها في مجلس العموم والتفكير بإجراء انتخابات مبكرة مرة أخرى، ما يعني أنه سيكون صاحب القرار الأول والحازم طوال فترة حكمه.
بمعنى آخر، إن ما جرى يبدو وكأن بريطانيا انقلبت على نفسها وعلى قناعاتها وقضاياها الحساسة، مثل نظام الضمان الصحي والإيمان بالمصير الأوروبي الواحد والتقديمات الاجتماعية للعاطلين عن العمل والفقراء والشرائح المحتاجة على عكس تيار المستثمرين ورجال الأعمال والأغنياء الذين سيحظون برعاية خاصة وإعفاءات ضريبية وقرارات تشجع الاستثمار لسد الفراغ الناجم عن الخروج من الاتحاد الأوروبي.
وإذا كانت عبارة "بريطانيا تنقلب على نفسها" غير واضحة تماماً فإنها ستبقى في حدودها الدنيا حتى إشعار آخر بانتظار جلاء الموقف من الخروج وبدء ظهور تداعياته وآثاره وانعكاساته على الشعب البريطاني والسياسات العامة.
مع الأيام ستتحدد خطوات المسار الصعب بالنسبة للخروج باتفاق أو دون اتفاق بعد انتهاء المهلة في آخر الشهر المقبل ويتحدد مصير المملكة المتحدة والسياسة الاقتصادية إلا أن الأمر الظاهر مما جرى يتجه نحو ازدياد مخاوف الجاليات العربية والإسلامية والمهاجرين الأجانب من قيود وإجراءات قاسية وضغوط لإغلاق باب الهجرة
أما الانقلاب الحقيقي فتمثل في دور جونسون ونجاحه الملفت للنظر في توحيد حزب المحافظين الذي كان يعاني من الضعف والخلل والخسارة أمام مجلس العموم مرات عديدة.
وتألق جونسون جاء بعد سنوات من انشقاقات داخل الحزب وبروز عدة محاور ومواقف وطرد أعضاء من بينهم وزراء وقادة مهمون. وبعد استقالة ديفيد كاميرون صاحب الاستفتاء على "بريكست" تولت من بعده الدفة تيريزا ماي التي أظهرت ضعفاً في مواجهة البرلمان ومجابهة المتمردين داخل حزبها أدى في النهاية إلى انسحابها بشكل مذل دون أن تلقى شيئاً من الأسف والتعاطف.
والصدمة الكبرى تمثلت في الخسارة الفادحة لحزب العمال ورئيسه اليساري جيريمي كوربن، فعلى عكس كل التوقعات فإن النتائج جاءت لتكشف الغطاء عنه وعن مشاريع الرعاية الاجتماعية وتخفيض الرسوم على طلاب الجامعات وإيجاد فرص عمل، وقد أدت عوامل عدة مجتمعة إلى هذا التداعي؛ من بينها الحرب التي شنها عليه اللوبي الصهيوني وإظهاره بمظهر المعادي للسامية، بسبب موقفه من قضية فلسطين والتعاطف مع الشعب الفلسطيني وانتقاد الاحتلال الإسرائيلي وعمليات القمع وضم الأراضي الفلسطينية، إضافة إلى الضعف الذي أظهره خلال الحملة الانتخابية وتعرضه لطعنات من قبل بعض الطامعين في الوصول إلى قيادة الحزب المتداعي، ومن ثم إلى عدم تمتعه بالكاريزما التي تأخذ بالباب الجماهير، على عكس جونسون الذي حاول إظهار نفسه قائدا قويا قادرا على القيادة بحزم ومحاربة الأجانب والحد من الهجرة لإرضاء العنصريين والشعبويين.
وجاءت خيبة الأمل الأخرى من حزب الديمقراطيين الأحرار الذي راهن عليه كثير من البريطانيين، خصوصا أبناء الجاليات العربية ورافضي الخروج من الاتحاد الأوروبي، بينما كان موقف كوربن ملتبساً وغامضاً.
والمهم الأكبر أن ما جرى قد جرى، ونجح أنصار الخروج وبدأت مرحلة جديدة في تاريخ بريطانيا وأدخلت الاتحاد الأوروبي في امتحان جديد لمعرفة مدى نجاحه في الحفاظ على مكتسباته ومنع حدوث خروج آخر من أي عضو من أعضائه، خصوصا أن الولايات المتحدة ومعها روسيا تسعيان لمنع تحوله إلى قوة عظمى تفرض نفسها وتواجه القوتين العظميين أو تقف نداً لند معها.
أما بريطانيا فالنتائج مختلفة، إذ إن الامتحان الصعب سيدخل في مناهجه ومواده المقررة قضايا داخلية كبرى، مثل الاستثمار والعلاقة مع الأشقاء السابقين ومدى صدق الولايات المتحدة في دعم اقتصادها والتوقيع على اتفاق تجاري مرن يتيح لبريطانيا التعويض عن الشراكة الأوروبية وفتح باب الاستثمار للشركات الأميركية خصوصا في قطاع التأمين الصحي. وهنا بيت القصيد لمعرفة مدى صحة إقدام جونسون على تخصيصه والتخفيف من خدماته تدريجياً. والقضية الأخرى المثارة هي مصير المملكة المتحدة، حيث تتركز الأنظار على اسكتلندا التي لا تنفي مساعيها للانفصال والاستقلال وإجراء استفتاء آخر بعد فشل الاستفتاء الذي جرى قبل سنوات.
كما أن أيرلندا الشمالية تتوق لتجربة مماثلة بعد بروز معارضة شديدة لـ"بريكست" ورفض الحواجز الجمركية ونظام التأشيرات والتنقل بينها وبين جمهورية أيرلندا العضو في الاتحاد الأوروبي، ما أدى إلى إقرار إجراءات ترضي الأيرلنديين وتخفف القيود الناجمة عن الخروج.
ومع الأيام ستتحدد خطوات المسار الصعب بالنسبة للخروج باتفاق أو دون اتفاق بعد انتهاء المهلة في آخر الشهر المقبل ويتحدد مصير المملكة المتحدة والسياسة الاقتصادية، إلا أن الأمر الظاهر مما جرى يتجه نحو ازدياد مخاوف الجاليات العربية والإسلامية والمهاجرين الأجانب من قيود وإجراءات قاسية وضغوط لإغلاق باب الهجرة والتشدد في منح الجنسية.. والأيام بيننا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة