ستارمر.. كلمة السر بين واشنطن وكييف

في خضم تقلبات سياسية يمكن للحظات قليلة أن تصنع الفارق بين الحرب والسلام.
ففي خطوة دبلوماسية محورية، لعب رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر ومستشاره الأمني دورا حاسما في رأب الصدع بين كييف وواشنطن، مما مهد الطريق لاتفاق وقف إطلاق النار، والذي قد يشكل نقطة تحول نحو إنهاء الصراع بين روسيا وأوكرانيا.
هذا ما كشفت عنه صحيفة "بوليتيكو" الأمريكية في تقرير لها طالعته "العين الإخبارية".
دبلوماسية خلف الكواليس
تقول الصحيفة، إن رئيس الوزراء البريطاني وكبير مستشاريه الأمنيين عملا بجهد كبير لإنقاذ العلاقة المتصدعة بين كييف وواشنطن، وصاغا خطة هدنة قد تمهد الطريق للسلام يوما ما.
ومساء الثلاثاء، وجّه ستارمر رسالتين عبر تطبيق التواصل الاجتماعي "واتساب"، إحداهما إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والأخرى إلى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. هنأهما على موافقتهما على خطة وقف إطلاق النار، وعلى استعادة التدفق الحيوي للمساعدات العسكرية والمعلومات الاستخباراتية من واشنطن إلى كييف.
كانت هذه لحظة ارتياحٍ قصيرة لرئيس الوزراء البريطاني، الذي أمضى الشهرين الماضيين في محاولة حشد الحلفاء لقضية كييف، وفق الصحيفة التي أشارت إلى أنه "ما كان ذلك ليحدث لولاه على الأرجح".
وأمس الأربعاء، قال ستارمر متحدثا في البرلمان البريطاني: "أنا سعيد لأننا أحرزنا تقدما. وأنا سعيد للغاية لأن الولايات المتحدة قدمت دعمها لأوكرانيا".
رياح الأيام الـ12
وقبل 12 يوما، تبددت آمال أي اتفاق بين الرئيسين الأمريكي والأوكراني. ففي مشاهد غير مسبوقة، عبّر ترامب ونائبه جيه دي فانس عن إحباطهما من زيلينسكي خلال اجتماع متلفز في المكتب البيضاوي.
وغضب فانس قائلا إن الزعيم الأوكراني لم يُبد امتنانا كافيا للمساعدة الأمريكية.
وحذر ترامب من أن زيلينسكي "يُخاطر بحرب عالمية ثالثة"، مضيفا: "لست في وضع جيد، ليس لديك أوراق اللعب الآن".
ردّ زيلينسكي، الذي بدا عليه الانزعاج أيضا، قائلا: "أنا لا ألعب الورق".
أما بقية العالم الغربي، فقد راقب الموقف برعب. حيث هبّ القادة والمسؤولون الأوروبيون، الذين بدا عليهم الانفعال بعد ما بدا لهم كمينا نصبه الأمريكيان، لدعم زيلينسكي.
وصرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: "إذا كان هناك من يلعب لعبة الحرب العالمية الثالثة، فهو فلاديمير بوتين".
كما غردت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين مخاطبة زيلينسكي: "كن قويا، كن شجاعا، لا تخف. لن تكون وحدك أبدا".
لحظةٌ وصفتها "بوليتيكو" بأنها كانت "مؤلمة للغاية" لرئيس الوزراء البريطاني. فقبل ساعات فقط من وصول زيلينسكي إلى واشنطن لحضور قمته الفاشلة، كان ستارمر على نفس المقعد في المكتب البيضاوي، حيث سلمّ ترامب دعوة من الملك تشارلز لزيارة دولة ثانية غير مسبوقة إلى بريطانيا.
استراتيجية الفوز باللحظة القادمة
ولفتت الصحيفة إلى أن المشهد الغاضب بين ترامب وزيلينسكي وضع رئيس الوزراء أمام خيار صعب، فهو لم يستطع انتقاد الرئيس الأمريكي ونائبه علنا بعد فترة وجيزة من علاقتهما الحميمة في البيت الأبيض، لكنه مع ذلك أراد إظهار دعمه لأوكرانيا والحفاظ على دعم القادة الأوروبيين، محاولا العمل كـ"جسر" بين أوروبا وأمريكا التي تشهد الآن حالة من التقلب الشديد.
وبدلا من اللجوء لفضاء التواصل الاجتماعي، اتخذ ستارمر الخيار الأكثر اعتدالا، فأصدر بيانا على لسان متحدث باسمه يؤكد فيه "دعمه الثابت" لأوكرانيا.
ووفقا لما نقلته "يوليتيكو" عن مصدر مصدر مطّلع على الوضع، "بدأ ستارمر العمل سرا على إيجاد حل"، و"كان رد فعله هو الرد على الهاتف، وليس استخدام تويتر"، حيث أجرى مكالمات مع كل من ترامب وزيلينسكي.
يعتمد كبير موظفي ستارمر، مورغان مكسويني، على فلسفة التعامل مع الأزمات من خلال التركيز على "الفوز بالساعة القادمة" بدلا من الانشغال بالأخطاء الماضية.
في صباح اليوم التالي للقاء زيلينسكي المُرهق في المكتب البيضاوي، وصل الرئيس الأوكراني إلى لندن لحضور اجتماع مع قادة أوروبيين وقادة آخرين يُحتمل أن يشكلوا "ائتلاف الراغبين" الذي يسعى ستارمر وماكرون إلى تشكيله.
استقبله ستارمر عند مقر رئاسة الوزراء بعناق، مدركا التأثير العاطفي العميق الذي أحدثه ترحيب الحشود به خارج "داونينغ ستريت".
قمة اليوم الواحد
بعد قمة استمرت يوما واحدا وسط الثريات والديكورات المذهبة في لانكستر هاوس، حدد ستارمر ما يجب أن يكون عليه الأمر.
- التعهد بمواصلة تزويد الجيش الأوكراني بالأسلحة.
- التأكيد على أن أي اتفاق دائم يجب أن يضمن أمن أوكرانيا ويشمل كييف في المفاوضات.
- تعزيز دفاعات أوكرانيا لمنع أي هجوم روسي مستقبلي.
- نشر قوات لحفظ السلام.
وذهب ستارمر إلى أبعد من ذلك، قائلا إنه سينشر "قوات برية وطائرات بريطانية" كجزء من مهمة حفظ سلام مستقبلية.
وفي الوقت الذي كثّف فيه قادة الاتحاد الأوروبي جهودهم العسكرية، بدا أن ترامب يتجاهل هذه التحركات، بل واتخذ قرارات صادمة، مثل تعليق المساعدات العسكرية لأوكرانيا ومنع تبادل المعلومات الاستخباراتية مع كييف.
خلال هذه الفترة، كان ستارمر على اتصال مكثف مع ماكرون، حيث تبادلا الأفكار وعقدا اجتماعات متكررة في باريس ولندن لإيجاد مخرج للأزمة.
أدركت بريطانيا أن زيلينسكي بحاجة إلى استعادة علاقته مع ترامب، وهو ما تحقق بعد جهود مكثفة.
وفي رسالة تصالحية اعتبرها البعض اعتذارا، قال زيلينسكي إنه مستعد للعمل من أجل السلام تحت "القيادة القوية" لترامب، ووصف الخلاف في البيت الأبيض بأنه "مؤسف".
الرجل الآخر
وبحسب "بوليتيكو"، كان مستشار الأمن القومي البريطاني جوناثان باول عنصرا محوريا في جهود إصلاح العلاقات.
باول، الذي عمل رئيسا لهيئة الأركان في حكومة توني بلير بين عامي 1997 و2007، يتمتع بسجل حافل في إدارة مفاوضات تبدو مستحيلة، حيث عمل على التوسط في اتفاق سلام في أيرلندا الشمالية في التسعينيات.
في الأسبوع الماضي، كلّف ستارمر باول بحل النزاع الأوكراني الأمريكي، وفقا لأشخاص مطلعين على الأمر غير مخولين بالتحدث علنا.
عمل باول عن كثب مع نظيره الأمريكي مايك والتز، وظل على اتصال وثيق بالمسؤولين الفرنسيين والألمان.
لم يكن لديهم الكثير من الوقت، فالاجتماع المقرر بين الدبلوماسيين الأمريكيين والأوكرانيين في المملكة العربية السعودية يوم 11 مارس سيكون فرصة حاسمة للمضي قدما، وربما آخر فرصة واقعية لوقف إطلاق النار.
في عطلة نهاية الأسبوع، سافر باول إلى كييف للقاء زيلينسكي ومستشاريه، حيث عملوا على وضع اللمسات الأخيرة على اتفاق وقف إطلاق النار الذي كانوا يأملون أن توقعه الولايات المتحدة وأوكرانيا.
وعشية المفاوضات الحاسمة في جدة، أجرى ستارمر اتصالا هاتفيا مع ترامب، محاولا إقناعه بأن زيلينسكي جاد في السعي للسلام، وأن الجميع—بما في ذلك المملكة المتحدة—عملوا بجد للوصول إلى هذه المرحلة.
نهاية مؤقتة أم بداية جديدة؟
وبالفعل، تم الإعلان عن الاتفاق، بعد أيام من الدبلوماسية المكثفة. لكن يبقى السؤال: إلى متى ستستمر هذه الروح الإيجابية؟
فبعد ساعات، فرض ترامب رسوما جمركية على جميع واردات الصلب والألمنيوم، متجاهلا مناشدات حلفاء أمريكا التقليديين في أوروبا، بما في ذلك المملكة المتحدة.
وغدا الجمعة، سيتوجه باول إلى واشنطن لإجراء المزيد من المحادثات مع نظرائه الأمريكيين قبل أن يعقد ستارمر اجتماعا آخر لائتلافه يوم السبت.
وحتى اليوم، لم توافق روسيا على الهدنة المؤقتة، والقتال يزداد سوءا في الجبهات.
وفي حين نال ستارمر الإعجاب لجهوده في إعادة ترامب وزيلينسكي إلى المسار الصحيح، يشكك بعض المسؤولين الغربيين سرا في قدرة بريطانيا العسكرية على الحفاظ على السلام.
وقال مسؤول أمريكي: "كير لاعب دبلوماسي قوي، والأسابيع القليلة الماضية أثبتت ذلك بشكل خاص". "لكن الجميع يتساءل أيضا عما إذا كانت المملكة المتحدة، على الصعيد العسكري - وهو الجانب الذي يهم بوتين حقا - مجرد نمر من ورق".
aXA6IDE4LjIyNS45OC43MSA= جزيرة ام اند امز