المتابع للشأن الإخواني يدرك أن هذا التنظيم نجح لفترة من الزمن في ممارسة "التقيّة" من خلال استراتيجيته في الخطاب الموجّه للجماهير.
ما ظهر مؤخرا على السطح من تسجيلات "خيمة القذّافي" وخاصة تلك المتعلقة باثنين من قادة إخوان الخليج حاكم المطيري ومبارك الدويلة ربما شكّل نوعا من الصدمة لأولئك المخدوعين بالتنظيم ورموزه، ولكنها في المقابل كشفت صواب وبعد نظر الكثير من الدول التي صنّفت هذا التنظيم بـ"الإرهابي" وأكدت هذه التسجيلات بما لا يدع مجالا للشك بأن الإخوان على استعداد للتحالف مع أي كان في سبيل استهداف أمن المنطقة وزعزعة استقرارها خدمة لمشروعهم الخبيث.
ورغم تلك النظرة السوداوية لحقبة الثورات وما أعقبها من إرهاصات إلا أنها كانت بمثابة التصفية التي سَهّلت لشعوبنا التمييز بين الخبيث والطيّب، فكم من شخصية كانت تلك الشعوب تنظر لها بقدر من الاحترام والثقة لما تمتلكه من العلم والمكانة الاجتماعية أو الدينية أو حتى السياسية والإعلامية وفق معايير لا تخلو من البراءة والثقة الزائدة.
واليوم ما أن انجلت تلك الغيوم إلا وبانت الحقيقة كما يقول المثل الشامي الشهير "ذاب الثلج وبان المرج"، واستيقظت شعوبنا على حقيقة نوايا وخفايا كثير من الشخصيات التي تبين لنا أنها تتخذ من الشعارات الدينية والوطنية وحتى القومية ذريعة لخداع العوام وتنويمهم مغناطيسيا بحجة الغيرة على الدين تارة ومقاومة الامبريالية والصهيونية تارة أخرى، فكم من خطوط حمراء وقيم تم انتهاكها وتحويرها لصالح أهداف حزبية تخدم مشروع تمزيق الأوطان وتفريق وحدة الشعوب، وظهرت لنا تحالفات لم تخطر على بال أي محلل أو خبير استراتيجي كان ينظر للمستقبل وفق معايير وأعراف وقوانين علم السياسة والاجتماع.
المتابع للشأن الإخواني يدرك أن هذا التنظيم نجح لفترة من الزمن في ممارسة "التقيّة" من خلال استراتيجيته في الخطاب الموجّه للجماهير.
هذه المقدمة يمكن إسقاطها على ما مر من أحداث القتل والتدمير والفوضى خلال العقد الأخير في منطقتنا ويتواصل تكشّف تلك "البراجماتية الخبيثة" إن صح تسميتها على ما يحصل حاليا في المنطقة، وكيف يحاول التنظيم الدولي الإرهابي للإخوان المسلمين أن يوظّف كل نص ديني أو تزييف حقائق تاريخية أو حتى التراجع عن تصريحات سابقة لقادته أو فتاوى لشيوخه المتطرفين، فقط لإيجاد مبرر يتم من خلاله كسب تعاطف العوام من المنخدعين بشعارات التنظيم التي تروّج لإعادة إحياء مشروع الخلافة المزعوم.
المتابع للشأن الإخواني يدرك أن هذا التنظيم نجح لفترة من الزمن في ممارسة "التقيّة" من خلال استراتيجيته في الخطاب الموجّه للجماهير، وبإمكاننا تقسيم هذا الخطاب إلى 3 أقسام؛ "ديني – إعلامي – سياسي"، وتابعنا كيف تفنّنت لجان التنظيم الدولي في تبادل هذه الأدوار والعمل بشكل لا يخلو من التنسيق والتكامل فيما بينها، بحيث أوكل الخطاب الديني إلى عدد من الشخصيات الدينية التي وظّفت النصوص الإسلامية في خدمة مشروعهم، فكم من تاجر دين وظّف آيات قرآنية نزلت في كتاب الله عز وجل في كفّار قريش والمنافقين أو نزلت في حدث ما، ليفتروا على الله كذبا ويستشهدوا بها في حديثهم عن كل من يخالف التنظيم الإخواني من حكام وشعوب، مقتدين بعرّابهم الفكري سيد قطب حين وظّف الآية الكريمة التي خاطب بها الله تعالى نبيه موسى وأخاه هارون عليهما السلام بقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) يونس 87، وزعم أنها خطاب من الله للمسلمين إلى اعتزال المساجد التي تشرف عليها الدولة ووصفها بـ"معابد الجاهلية"، وهناك المئات من الأمثلة التي تبيّن كيف وظّف الإخوان تأويل الآيات والنصوص الدينية لتكفير المجتمعات والحكّام وتفسيرها وفق أهوائهم السياسية والفكرية لا يتسع المجال لحصرها أو حتى ذكرها.
وفي الخطاب السياسي هناك الألوف من خطب قادة الإخوان وتناقضاتهم المكشوفة على الملأ، وأحد هذه التناقضات حين خرج لنا القيادي الإخواني إبراهيم منير عبر مناقشة له في البرلمان البريطاني في منتصف 2016 وردا على سؤال وجّه له حول حرية الإلحاد والمثليين في فكر التنظيم، فقال: "كل إنسان حر فيما يفعله، فالشريعة الإسلامية لا تطالبنا بتتبعهم، ما داموا لا يضرون بالأجواء العامة أو الدولة فهم أحرار فيما يفعلون"، وهم الذين لم يتركوا منبرا ولا خطبة إلا ونصّبوا فيها أنفسهم بأنهم حرّاس الفضيلة وحماة الدين وأن الحكام وجيوشهم ملاحدة وطواغيت ورعاة للفحشاء والمنكر بزعمهم.
وفي الإعلام أدرك الإخوان أن هذا المجال لا يمكن أن تطبّق عليه تلك الأعراف والقواعد التي يستخدمونها في الخطابين الديني والسياسي، فالخطاب الديني يمكن فيه تطويع النصوص الدينية بما يخدم التوجه، كما أن العزف على وتر استجداء التعاطف أمر ليس بتلك الصعوبة من منطلق غيرة الناس على دينهم وإيمانهم بأن التقرب إلى الله يكون في نصرة دينه ومحاربة أعداء الأمة وهو ما نجح فيه التنظيم إلى أبعد الحدود في الخداع والمراوغة، وفي الخطاب السياسي يعلم الإخوان أن المخاطبون هم النخب وصنّاع القرار وخاصة في المجتمعات الغربية، وبالتالي فإن احتمالية رصد تناقضاتهم وتصيّد هفواتهم لن تكون بتلك السهولة كما يعتقد خصومهم السياسيين، وقد برعوا في ذلك أيضا من خلال تبادل الأدوار وتوزيع الخطاب بين داخلي موجه لقواعدهم الشعبية في القرى والمجتمعات الشعبية التي يرون فيها قوة انتخابية تسهل لهم الوصول للسلطة والمقاعد البرلمانية في الدول العربية والإسلامية، عبر التركيز على القضية الفلسطينية ونصرة المظلومين ومقاومة الظلم ومعالجة الفقر وتقديم الوعود البرّاقة ومحاربة الطواغيت الممثلين في الحكّام والحكومات بحسب زعمهم، وبين ذلك الخطاب الموجّه للغرب والذي يدعو إلى احترام الحريات ونصرة المرأة ودعم الديمقراطية.
فيما يتعلق بالخطاب الإعلامي للإخوان يمكننا تقسيمه إلى شقين "معلن وغير معلن"، خاصة وأن الخطاب هنا موجه إلى العموم وبالتالي لا بد من مراعاة التوافق بين الشعارات الرنّانة التي يستخدمها التنظيم وقادته في أدبيات التحشيد والتجنيد والتحريض من جانب، وبين ما يمكن أن يستخدمه خصومهم ضدهم بالرجوع إلى الأرشيف والمحاججة بها في تفنيد التنظيم وتعرية تناقضاته أمام العامة، فلو أخذنا على سبيل المثال موقف التنظيم الدولي للإخوان من النظام الإيراني ومرتزقته في المنطقة، لوجدنا أن قادة التنظيم ورموزه لهم خطاب يكاد يكون واضحا في شبكات التواصل الاجتماعي والمواقع وحتى القنوات الفضائية، بأن نظام طهران يمثل تهديدا للأمة ويجب رص الصفوف وإعداد العدة لمواجهته في سوريا ولبنان والعراق واليمن، ولكن في المقابل فإن التنظيم وقادته يدركون تمام الإدراك أن هناك خطوط حمر لا يمكنهم تجاوزها إذا ما تعلق الأمر بإصدار بيان رسمي أو التعبير عن موقف يمسّ مسألة دعمهم للنظام الإيراني في مقاومة الامبريالية والاستكبار ونصرة محور المقاومة المزعوم طاعة وتنفيذا لما يملى عليهم من الصف الأول في التنظيم تجاه الحفاظ على العلاقة المتينة والراسخة مع النظام الإيراني والمتوافقة في العداء للدول العربية.
ولعل الحديث في هذا الشأن يقودنا للاستشهاد بحدث مقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني، فطوال فترة الأزمة السورية كان الإخوان يستخدمون شعارات مواجهة إيران والتمدد الشيعي ونصرة "الثوار" السوريين كوقود لكسب التعاطف الشعبي في الوطن العربي واستغلال ذلك في تلميع صور رموز التنظيم بدافع الغيرة على الأمة والدفاع عن المستضعفين، وأن على الحكومات العربية إرسال الجيوش لمواجهة "المد الشيعي" في سوريا، بينما وجدنا جميعا أنه وبمجرد الإعلان عن مقتل سليماني تسابق الإخوان إلى تقديم أحر التعازي وإقامة سرادق العزاء، بل وصل الأمر بحركة حماس الإخوانية إلى إصدار بيان رسمي على موقعها في الإنترنت تصف فيه سليماني بـ"الشهيد" قائلة: "تنعى الحركة القائد سليماني وشهداء الغارة الأمريكية هذا اليوم فإنها تتقدم بالتعزية للشعب العراقي الشقيق باستشهاد عدد من أبنائه جراء الغارة الأمريكية الغادرة"، في المقابل سارعت قناة الجزيرة المنبر الأول للتنظيم الإخواني بإنتاج فيديو تصفه فيه بأنه "الجندي الذي كرس حياته لخدمة الإسلام والجندي المجاهد في سبيل الله والشهيد الذي تخافه قوى الاستكبار والشيطان الأكبر".
ربما شكلت مواقف التنظيم الدولي تجاه مقتل سليماني ردود أفعال صادمة وسط الكوادر الإخوانية الشابة، وأولئك القابعون في الصفوف الدنيا من التنظيم، والذين بالتأكيد لا يدركون أن موقف التنظيم وقادته تجاه نظام طهران وإجرامه بحق شعوب المنطقة يندرج تحت بند "المعلن وغير المعلن"، وهو ما أثار الغضب لدى الكثير من هؤلاء العوام لدرجة دفعت الجزيرة إلى حذف الفيديو بأسرع وقت.
سرد هذه المواقف يمثل جزءا يسيرا جدا لمحاولة كشف بعض من "تقيّة" التنظيم الإرهابي الإخواني وتميّعه الزئبقي للتكيف مع كل الظروف والمواقف، واستغلال كل شاردة وواردة لخدمة أهدافه في الحشد والتخوين والتحريض دون أي اعتبار لقيم وخطوط حمراء وضعها ورسمها التنظيم ذاته على مجتمعاتنا وشعوبنا، وبعد هذا كله ألم يحن الوقت لأولئك المغيبين لإعمال ما وهبهم الله من عقول لاستدراك ما يحيكه هذا التنظيم ورموزه من مخططات و"براجماتية خبيثة" تستهدف دينهم وأوطانهم وأمنهم واستقرارهم؟.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة