"سبيل محمد علي".. تحفة مصرية تروي عطش عشاق العمارة الإسلامية
سبيل محمد علي يعتبر من النماذج المعمارية التي حملت تأثيرات وافدة على العمارة الإسلامية، إذ يلاحظ زائره البصمة الأوروبية على زخرفته.
تحتضن العاصمة المصرية القاهرة الكثير من الأسبلة التي تشير إلى ارتباط العمارة الإسلامية بالحياة اليومية لدى المصريين، ولعل أكبرها وأشهرها هو سبيل محمد علي الموجود في منطقة العقادين على رأس حارة الروم المتفرعة من شارع المعز لدين الله الفاطمي، والقريب من مسجد المؤيد شيخ في حي الغورية، وعلى بعد 100 متر من بوابة باب زويلة، حيث شنق السلطان طومان باي آخر سلاطين المماليك في مصر.
أنشأ السبيل محمد علي باشا والي مصر بين عامي 1805 - 1848، صدقة على روح ولده إسماعيل باشا الذي توفي في السودان عام 1822، وواجهة السبيل مكسوة بالرخام المحلي بنقوش وكتابات مختلفة، ومكونة من 4 أضلاع يغطي كل منها شباك نحاسي مصبوب فيه رسوم بيضاوية يتخللها توريق مختلف ومميز.
وكُسيت هذه الأضلاع بالرخام من أسفلها إلى أعلاها، وحُليت خواصر عقود الشبابيك بزخارف مورقة أقرب إلى الزخرف، وكل شباك يعلوه لوحة مكتوبة باللغة العثمانية، ويعلوها عقد داخله زخارف يغطي الجميع رفرف خشب حلي بزخارف مذهبة.
ويتحدث خالد فهمي، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط الحديث في قسم الدراسات الشرق الأوسطية والإسلامية بجامعة نيويورك، في كتابه "سبيل محمد علي باشا"، عن تاريخ السبيل، قائلاً إن محمد علي باشا كسر التقليد المعماري المملوكي الذي امتد قرونا طويلة، ودشن بإقامة هذا السبيل طرازا جديدا تماما، فاختار موقعا بارزا في المنطقة التجارية النشطة على الشارع الرئيسي في المدينة القاهرة.
وأوضح أنه اختار أن يشيد مبنى بهذه الضخامة والفخامة ليبرز سلطته السياسية، وتعرض اللوحات المنقوشة بكتابة عثمانية على الواجهة أبياتا شعرية، واسم محمود الثاني سلطان الدولة العثمانية آنذاك التي كانت مصر جزءا منها، وكان محمد علي واليا عليها، وتأثر كثيرا بالعمارة التركية والأوربية في تصميم هذا السبيل.
وتابع فهمي بقوله: "طراز الزخرفة الغنية المنحوتة على الرخام على الواجهة المقوسة كان جديدا تماما على القاهرة، وكان هذا الطراز الذي ظهر في مبان كثيرة في إسطنبول تحويرا عثمانيا لطراز الباروك الأوروبي، كذلك كانت الأفاريز الخشبية البارزة المنقوشة الغنية بالنحت متأثرة بطرز معمارية تركية.
وزيادة في البعد عن تقاليد العصر المملوكي لم يبن فوق السبيل كتاب، إنما بنيت قبة مغطاة بالرصاص على غرار مبان عديدة في عاصمة الدولة العثمانية، وكان يتوج المبنى هلال لامع مطلي بالذهب، وكانت أبواب المدخل الرئيسي مصبوبة بالبرونز الصافي.
كان الماء في سبيل محمد علي يحفظ في صهريج ضخم تحت الأرض، عمقه 9 أمتار، ومسقوف بـ9 قباب حجرية، وجدرانه مبطنة بمونة غير منفذة للماء على غرار المباني الرومانية القديمة، وكانت تغذيه بالماء أنابيب تملؤها سواق منصوبة على الخليج المصري الذي كان يخترق المدينة وقتها، وتبلغ سعة الصهريج 455 ألف لتر تكفي لملء مليون ونصف مليون كوب من الماء.
وعادةً ما كان الناس الذين يشربون من السبيل يتركون عملات رمزية عرفانا للجميل، ووجد منها الكثير خلال الترميم تحت الدرجات وفقا للعرف الشعبي.
وفي كتاب "تاريخ مصر العمرانى وآثار القاهرة" نقرأ أن السبيل من المباني المتأثرة بالطراز التركي بشكل كبير، وهو مكسو بالرخام المحلى بنقوش وكتابات غاية في الدقة والعمارة، إلا أنه يعتبر أيضا من النماذج المعمارية التي حملت تأثيرات وافدة على العمارة الإسلامية، إذ يلاحظ زائره البصمة التركية والأوروبية على زخرفته وتصاميمه المختلفة.
وظهرت التأثيرات الأوروبية بشكل واضح وأعمق في معظم الأجزاء الداخلية للمبنى والنقوش والمباني الداخلية، وكل ما يحتويه السبيل يؤكد أنه عمل فني فريد من نوعه في ذلك الوقت، ويضيف الكثير من الفنون والنماذج المعمارية الجديدة في ذلك الوقت على القاهرة ومبانيها ومعالمها التاريخية المختلفة والمتميزة والمتنوعة كثيرا.
ولمن يمر في الفترة الأخيرة أمام سبيل محمد علي سوف يرى مدى التغيير الذي حدث فيه، وأعمال الترميم، وسيكون بإمكانه أيضا أن يستمع إلى حكايات من سكان المنطقة والبائعين المنتشرين حول السبيل عن الفترة الطويلة التي استمر خلالها الترميم، ومدى التغيير الذي حدث.
وكما تحدث كتاب سبيل محمد علي، فبعد عقد من إنشاء السبيل في وقت ما بين عامي 1828 - 1831 تم توسيع السبيل، وأُضيف له دور علوي لكنه خال من الزخرفة تقريبا، مما يؤكد أنه بني لغرض عملي.
وفي هذه السنة أجريت أعمال جديدة في المبنى، كما تشهد اللوحة التذكارية المثبتة على الواجهة وفي ثلاثينيات القرن الماضي أهمل السبيل، وأصبحت حجرات الدور الأرضي مدرسة للبنات، وظلت المدرسة مفتوحة حتى الزلزال الكبير الذي شهدته مصر عام 1992، الذي وضع المبنى على حافة الانهيار فهجرته التلميذات إلى مدارس أخرى.