أفريقيا على أعتاب فرصة فريدة.. وجهة مستقبلية لخدمات التعهيد

اعتبر تقرير نشرته مجلة «الإيكونوميست» إنه في ظل تزايد الطلب العالمي على خدمات الذكاء الاصطناعي وتصنيف البيانات، تجد أفريقيا نفسها أمام فرصة فريدة للتحول إلى مركز عالمي لخدمات التعهيد (مراكز الاتصالات الخارجية).
وبينما تسعى شركات محلية إلى خلق وظائف معرفية مستدامة، تواجه القارة تحديات حقيقية من الأتمتة، وسوء ظروف العمل، والتنقل السريع للشركات. ومع دعم حكومي متزايد واستثمار في التعليم، يمكن لأفريقيا أن تتجاوز المهام البسيطة وتتنافس على وظائف عالية القيمة، مما يجعلها لاعباً رئيسياً في الاقتصاد الرقمي العالمي.
وأوضح التقرير إنه في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تعرّفت ميرسي موغير على مفهوم "التعهيد الخارجي لعمليات الأعمال" (BPO)، وهو أسلوب تعتمد فيه الشركات على جهات خارجية للقيام بوظائف أو خدمات كانت تُنفّذ داخلياً، بهدف خفض التكاليف وتحقيق الكفاءة. هذا المفهوم كان مفتاحاً لتحول كبير في بعض الدول، حيث أصبحت الهند مثلاً مركزاً عالمياً للخدمات الخلفية. موغير، ومعها صديقتها، وجدت في هذه الفكرة فرصة لإحداث تغيير في أفريقيا، فأطلقتا عام 2006 شركة "أديبت تكنولوجيز" في كينيا، لتكون من أوائل شركات التعهيد في البلاد، وتسعى لخلق فرص عمل حقيقية في قارة لم تجنِ الكثير من فوائد العولمة.
ورغم مرور ما يقرب من عقدين، تظل "أديبت تكنولوجيز" حالة فريدة في أفريقيا، حيث لم تتحول القارة بعد إلى بديل فعلي للهند أو الفلبين في مجال التعهيد، كما كان يأمل البعض. لكن هذا الواقع قد يتغير قريباً. فمع تزايد الطلب العالمي على تصنيف البيانات وتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، بدأت تظهر فرص واعدة للشركات الأفريقية.
وتأتي هذه الفرص في وقت حرج، حيث تواجه القارة أزمة بطالة متفاقمة بين الشباب، مع إشارة أكثر من 75% منهم إلى صعوبة العثور على وظائف مناسبة. ولم تعد الصناعة التقليدية قادرة على استيعاب العمال كما في السابق، نظراً للتقدم التكنولوجي الذي قلل الحاجة للأيدي العاملة البشرية. وهنا يبرز التعهيد كحل بديل يمكن أن يسد بعض هذه الفجوة في سوق العمل.
نمو في القطاع
وحالياً، يعمل نحو مليون شخص في أفريقيا ضمن قطاع التعهيد، وهو ما يمثل نحو 2% من القوى العاملة العالمية في هذا المجال. ومع ذلك، من المتوقع أن يشهد هذا القطاع نمواً سنوياً بنسبة 14% بين عامي 2023 و2028، أي ما يعادل ضعف المتوسط العالمي. في كينيا وحدها، يُتوقع أن يبلغ معدل النمو 19% سنوياً، وهو ما يعكس تسارعاً ملحوظاً في توسع القطاع.
وتمتلك أفريقيا عدة مزايا تنافسية تدعم هذا النمو، خاصة في الدول الناطقة بالإنجليزية مثل كينيا ونيجيريا. فالشباب يشكلون غالبية السكان، والتعليم في تحسن مستمر، والعديد منهم يتحدث الإنجليزية بطلاقة. بالإضافة إلى ذلك، فإن الفروقات الزمنية المحدودة بين أفريقيا وأوروبا وأمريكا تجعل العمل عن بُعد أكثر سلاسة. كما أن بعض العملاء يفضلون اللهجات الأفريقية على غيرها لما يرونه فيها من حيادية.
والعامل الحاسم الآخر هو التكلفة، إذ تشير دراسات إلى أن الأجور وتكاليف التشغيل في كينيا أقل بنسبة 60–70% مقارنة بالدول الغربية. ومع ارتفاع تكاليف التوظيف في الهند والفلبين، تزداد جاذبية أفريقيا كمركز جديد للخدمات.
ولتعزيز هذا الزخم، بدأت الحكومات في اتخاذ خطوات عملية. في كينيا، ستُطلق قريباً سياسة وطنية تهدف إلى خلق مليون وظيفة في قطاع التعهيد خلال خمس سنوات، عبر حوافز ضريبية ودعم مباشر. نيجيريا أطلقت في 2024 برنامجاً وطنياً تحت اسم "Outsource to Nigeria"، بينما تقدم جنوب أفريقيا منحاً مالية لكل وظيفة جديدة تُستحدث.
تحديات
لكن النمو لا يخلو من تحديات. فبعض المهام، مثل مراقبة المحتوى وتصنيف البيانات، أثارت جدلاً بسبب ظروف العمل القاسية، حيث اشتكى موظفون من تعرضهم لمحتوى عنيف أو مهين دون دعم نفسي كافٍ. وقد وصلت بعض هذه القضايا إلى المحاكم، كما حدث في نزاع بين موظفين سابقين وشركتي "ميتا" و"ساما". إضافة إلى ذلك، هناك مشكلة "التنقل السريع"، حيث قد تنقل الشركات عملياتها من بلد لآخر فجأة بسبب مشكلات قانونية أو سمعة سلبية.
إلا أن أكبر التحديات يأتي من التقدم التكنولوجي، وخاصة الأتمتة. فالكثير من المهام البسيطة أصبحت مؤتمتة، مما يقلص الحاجة للعمالة البشرية. وتشير دراسات إلى أن أكثر من 40% من مهام BPO في أفريقيا معرضة لخطر الأتمتة خلال السنوات القادمة.
ومع ذلك، هناك أمل في التحول نحو مهام ذات طابع معرفي وتخصصي، مثل تدقيق مخرجات الذكاء الاصطناعي أو تقديم خدمات تتطلب تفاعلاً بشرياً معقداً. ترى ويندي غونزاليس، الرئيسة التنفيذية لشركة "ساما"، أن المستقبل سيكون للمهام المعقدة التي لا يمكن للآلات تنفيذها بكفاءة. أما موغير، فترفض العمل في مراقبة المحتوى، وتركز بدلاً من ذلك على التوسع في خدمات تتطلب مؤهلات عالية في علوم الحاسوب والذكاء الاصطناعي.
وفي النهاية، فإن قدرة أفريقيا على الاستفادة من هذا القطاع ستعتمد على استثمارها في التعليم والتدريب النوعي. فالمنافسة المستقبلية لن تكون على عدد الوظائف فحسب، بل على نوعيتها وقيمتها الاقتصادية والمعرفية.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMjAzIA==
جزيرة ام اند امز