على الرغم من أهمية الصين التجارية إلا أن الكثير من المنتجين من الدول المتقدمة ينتجون من أجل سد الطلب المحلي الصيني
ربما يكون واحداً من الدروس المهمة التي خرج بها البعض حتى الآن من تفشي فيروس كورونا هو خطورة وجود الكثير من سلاسل الإمداد والتصنيع في الصين، وبالتالي كان الاستنتاج المترتب على هذا في نظر البعض هو ضرورة عودة هذه السلاسل لتنتج في البلد المنتج للسلع المعتمدة على هذه السلاسل.
بمعنى آخر هي دعوة للقومية الاقتصادية والاكتفاء الذاتي حيث تعود الصناعات مرة أخرى إلى الدول المتقدمة.
وفي هذا المقام يشير البعض إلى أنه تحت ضغط الأزمة وجد الشعار الانتخابي للرئيس ترامب إبان الانتخابات الرئاسية "أمريكا أولا" ودعوته إلى عودة المنتجين الأمريكيين للعودة بإنتاجهم من الصين وغيرها إلى داخل الولايات المتحدة صدى مناسب، بل إن البعض يضيف أن الأزمة جعلت البعض في بلدان أخرى يتبنى شعار "ألمانيا أولا" أو "فرنسا أولا".. وهكذا في الكثير من الدول المتقدمة صناعيا.
والواقع أن هذا الاستنتاج وهذه الدعوات يمكن القول إنها متسرعة بعض الشيء، فهي تستند للحماسة والاندفاع في غمار الأزمة، لكنها لا تحسب حساب لما دفع هذه السلاسل والصناعات للإنتاج في الخارج في المقام الأول. إذ أن رأس المال يبحث دائما عن المكان الأرخص والإنتاجية الأعلى لإنتاج بضاعته حتى يمكنه الحصول على أقصى ربح ممكن من هذا الإنتاج.
الصين أصبحت بشكل عام أقل اعتمادا بكثير على الصادرات، حيث لا تشكل الصادرات سوى نحو 15% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2018.
وهنا نلاحظ على هذه الدعوة لعودة الصناعات مرة أخرى من الصين إلى الدول المتقدمة عدة ملاحظات أساسية:
أولا: يمكن فعلا عودة بعض الصناعات وخاصة تلك المرتبطة بالإمدادات الطبية، إذ بينت الأزمة خطورة عدم توافر هذه الإمدادات من ألبسة واقية وكمامات ومعدات وأدوية والتي كانت مطلوبة للتعامل مع الجائحة بسرعة وكفاءة.
لهذا قد تعود بعض هذه الصناعات استنادا إلى الأموال العامة التي سيتم توفيرها للحفاظ على مستوى أعلى من الاحتياطي الاستراتيجي المطلوب من هذه المواد وغيرها، أو استخدام الأموال العامة في دعم المصنعين المحليين لهذه المواد بحيث يعود جزء من تصنيع هذه المواد محليا بدلا من الاعتماد على الصين لاستيرادها.
ثانيا: ينسى الذين يتبنون هذه الدعوة أن الصين أصبحت بشكل عام أقل اعتمادا بكثير على الصادرات، حيث لا تشكل الصادرات سوى نحو 15% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2018. فقد بلغت قيمة الصادرات 2.49 تريليون دولار، بينما بلغ الناتج المحلي الإجمالي 13.61 تريليون دولار.
كما لا ينبغي أيضا نسيان أنه إذا كانت الصين تتربع على عرش الصادرات العالمية كأكبر مصدر للسلع، فهي أيضا ثاني أكبر مستورد للسلع في العالم، حيث بلغت قيمة وارداتها نحو 2.14 تريليون دولار، وبالتالي فهناك الكثير من الدول المتقدمة التي تعتمد هي الأخرى على السوق الصيني لصادراتها.
وإذا كانت الصين قد حققت بذلك فائضا في ميزانها التجاري بلغ نحو 350 مليار دولار عام 2018، إلا أنها حققت عجزا كبيرا في تجارتها الخدمية وجزء كبير من هذه التجارة الخدمية يجري مع البلدان المتقدمة صناعيا، وخاصة الولايات المتحدة.
والاستنتاج المهم الذي يمكن الخروج به مما سبق هو أنه على الرغم من أهمية الصين التجارية إلا أن الكثير من المنتجين من الدول المتقدمة الذين يعملون الآن في الصين ينتجون من أجل سد الطلب المحلي الصيني، والجزء الأقل نسبيا هو الذي ينتج من أجل التصدير.
وقد تحقق هذا تدريجيا منذ التحول الذي استهدفته الصين من استبدال الاعتماد على السوق الخارجي بالاعتماد على الطلب المحلي لتطوير وتنمية اقتصادها، وهذا منذ منتصف العقد الماضي تقريبا.
ثالثا: أن التحول في التصنيع بعيدا عن الصين لبعض المنتجات هو أمر قائم بالفعل منذ فترة من الوقت بحكم التطور الذي مر به الاقتصاد الصيني، وارتفاع مستويات المعيشة المستندة إلى ارتفاع نسبي للأجور مما دفع لانتقال بعض الصناعات إلى دول أخرى أقل في تكلفة الإنتاج خاصة في محيطها، وخاصة في السلع الصناعية الخفيفة التي يتطلب إنتاجها عمالة كثيفة.
ففي بداية عملية الانفتاح الصيني في عام 1978 كانت صادرات المواد الأولية تشكل أكثر من نصف الصادرات، لكن هذه النسبة أخذت في الانخفاض تدريجيا لصالح الصادرات من السلع الصناعية الخفيفة في البداية ثم السلع الصناعية الأكثر تعقيدا فيما بعد. حيث بلغت قيمة الصادرات الأولية حوالي 5.4% فقط من إجمالي الصادرات في عام 2018، بينما زادت صادرات السلع المصنعة لتبلغ 94.6% من الإجمالي، وارتفعت حصة صادرات الآلات ومعدات النقل وحدها إلى 48.6% من جملة الصادرات، وتراجعت حصة المنسوجات والملابس الجاهزة والأحذية وغيرها من منتجات الصناعات الاستهلاكية الخفيفة.
وهذا النمط من انتقال الصناعة هو الشائع في التجربة الآسيوية للتنمية والتصنيع، حيث عندما يتطور الهيكل الاقتصادي لبلد ما مثل كوريا الجنوبية وتايوان على سبيل المثال يتم الاستغناء عن السلع كثيفة العمالة لصالح التخصص في إنتاج سلع أكثر تقدما تكنولوجيا وأكثر تعقيدا، لصالح بلدان أقل تطورا.
والصين نفسها استفادت من ذلك حيث انتقلت إليها في بداية فترة انفتاحها الاقتصادي في أواخر السبعينيات من القرن الماضي استثمارات من هونج كونج وتايوان لإنتاج سلع مثل الملابس الجاهزة والأحذية، وهكذا فالصين بدورها تسلم هذه السلع كثيفة العمالة الآن لبلدان مجاورة مثل فيتنام ولاوس وكمبوديا وبنجلاديش وإندونيسيا وغيرها.
يوضح هذا الانتقال الصناعي تقرير لمنظمة التجارة العالمية، فعلى الرغم من أن الصين ما زالت أكبر مصدر للنسيج والملابس الجاهزة في العالم، إلا أن هناك تبدل كبير في دورها، فرغم استمرارها كأكبر مصدر للملابس الجاهزة، إلا أن نصيبها من السوق العالمي انخفض.
كما تقلص نصيب الصين في الأسواق الكبرى الثلاثة المستوردة للملابس الجاهزة وهي الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، واليابان خلال الأعوام الخمسة 2013-2017.
ويبين تقرير المنظمة أن الصين أصبحت أكثر تخصصا في عام 2017 في مجال تصدير النسيج أكثر من تصدير الملابس الجاهزة. حيث هبطت حصة الصين من الملابس الجاهزة من ذروة بلغت 38.8% من الإجمالي العالمي في عام 2014 إلى 34.9% في عام 2017، بينما صعدت حصتها في صادرات المنسوجات لتبلغ الذروة في عام 2017 بنسبة 37.1%.
وأصبحت الصين تلعب دورا محوريا كمورد للنسيج للعديد من الدول التي تقوم بتصدير الملابس الجاهزة في بلدان آسيا الأقل تطورا منها باعتبارها صناعة كثيفة العمالة أكثر.
فنحو 47% من واردات بنجلاديش من النسيج في عام 2017 أتت من الصين، بعد أن كانت نحو 39% فقط في عام 2005، وفي كمبوديا صعدت النسبة من 30% إلى 65%، وفيتنام من 23% إلى 50%، وفي باكستان من 32% إلى 71%، وفي ماليزيا من 25% إلى 54%، وفي إندونيسيا من 28% إلى 46%، والفلبين من 19% إلى 41%، وسريلانكا من 15% إلى 39% خلال نفس الفترة. ويتكرر نفس الأمر تقريبا في صناعات أخرى مثل صناعة الأحذية.
رابعا: كما أن الصين مصدر لعدد كبير من سلاسل الإمداد فهي أيضا تستورد عدد كبير آخر من سلاسل الإمداد من بلدان أخرى. مثل اعتمادها على الولايات المتحدة واليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية في استيراد العديد من المواد خاصة المعدات والآلات وأجزائها في إنتاج سلع إما لسوقها المحلي أو للتصدير.
هذا طبعا إلى جانب اعتمادها في استيراد المواد الأولية على عدد كبير من البلدان يأتي على رأسها استراليا والبرازيل وتشيلي، واستيراد مواد الطاقة من المنطقة العربية وأفريقيا.
وباختصار فهناك اندماج كامل للاقتصاد الصيني في الاقتصاد العالمي، وهناك حالة قوية من التشابك والاعتماد المتبادل بين الصين والأسواق العالمية خاصة في الدول المتقدمة التي تقف على رأس الشركاء التجاريين الرئيسيين لها.
انتقال بعض الصناعات خارج الصين بحكم التطور الصناعي والتكنولوجي الصيني وارتفاع تكلفة الإنتاج بها هو أمر وارد بل ويحدث بشكل مستمر، وقد يزيد هذا الانتقال بعض الشيء بسبب حاجة الدول المتقدمة لتأمين احتياجاتها الاستراتيجية من بعض المواد خاصة في بعض القطاعات كالقطاع الطبي وذلك كدرس من دروس انتشار فيروس كورونا.
لكن انتظار انتقال كامل للتصنيع أو لسلاسل الإمداد خارج الصين وفقا لشعارات "القومية الاقتصادية" هو أمر غير متوقع إلى حد بعيد، إذ ما تزال عوامل مثل الإنتاجية وتكلفة الإنتاج واتساع السوق الصيني الذي يضم نحو 1400 مليون مستهلك من عوامل الجذب القوية للتصنيع في الصين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة