يمكن التأكيد استنادا إلى تجارب تاريخية عدة أنه ليس هناك من طرف يمكنه أن يفوز في أي حرب تجارية.
تطورات سريعة ومتلاحقة تشهدها حلبة التجارة العالمية بعد نشوب حرب التجارة فعلا بين الولايات المتحدة والصين، وذلك في أعقاب فرض الولايات المتحدة لرسوم جمركية تبلغ 25% على وارداتها من سلع صينية تبلغ قيمتها 34 مليار دولار ودخولها حيز النفاذ العملي يوم الجمعة الماضي 6 يوليو.
ليعقب ذلك رد صيني بفرض النسبة نفسها من الرسوم الجمركية على وارداتها من سلع أمريكية تبلغ قيمتها أيضا 34 مليار دولار. وبات الوضع الآن مهددا أولا بزيادة حدة هذه الحرب بين البلدين الأقوى تجاريا في العالم، فهناك سلع قيمتها 16 مليار دولار ستطبق عليها النسبة نفسها من الرسوم قريبا، إلى جانب إعلان الإدارة الأمريكية تجهيزها قائمة جديدة من الواردات الصينية تبلغ قيمتها 200 مليار دولار ستفرض عليها تعريفة جمركية نسبتها 10% كانت قد هددت بأنها ستقدم عليها إذا ما ردت الصين بإجراءات انتقامية ضد القائمة الأولى المعلنة، وهو ما حدث بالفعل. إلى جانب ذلك هناك التهديد الأمريكي بتوسيع نطاق هذه الحرب لكي تشمل أطرافا أخرى، من أهمها الاتحاد الأوروبي (وخاصة ألمانيا) بالتهديد بفرض رسوم جمركية بنسبة 20% على صادرات السيارات الأوروبية للولايات المتحدة. كما أن هناك إمكانية لشمول هذه الحرب لأطراف أخرى تحقق فوائض تجارية مع أمريكا ومنها كندا والمكسيك، شركاء الولايات المتحدة حتى الآن في اتفاقية منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية "النافتا"، إذا لم يتم النجاح في تعديل اتفاقية النافتا لكي تستجيب لبعض المطالب الأمريكية التي تخفض بشكل ملموس من عجز الولايات المتحدة التجاري مع البلدين.
مكاسب وخسائر غير متماثلة
يمكن التأكيد استنادا إلى تجارب تاريخية عدة أنه ليس هناك من طرف يمكنه أن يفوز في أي حرب تجارية. والواقع يشير إلى أن الخسائر ستكون غير متماثلة تبعا لوزن تجارة واقتصاد كل بلد من البلدان الأطراف في هذه الحرب. فيرى العديد من أنصار حرية التجارة أنها تساعد على تقوية عملية التنمية الاقتصادية، حيث يغير فتح الحدود لقوى التجارة الدولية من الهيكل الاقتصادي في البلدان أطراف عملية التجارة. وتعمل حرية التجارة أيضا على تعزيز النمو الاقتصادي وتزيد من الكفاءة والإنتاجية العالمية بتخصص كل بلد في إنتاج سلع معينة وتصديرها للآخرين. وهكذا رغم أن حرية التجارة تحقق مكاسب لجميع أطراف التجارة (وسواء كانت هذه الأطراف من الدول النامية التي تسعى لتحقيق التنمية أو الدول المتقدمة)، إلا أن هذه المكاسب ليست بالضرورة متماثلة.
يشير بعض الاقتصاديين الأمريكيين إلى أن الصين تعد في موقف جيد إلى حد معقول لتجاوز هذه العاصفة. فاقتصاد الصين يعد أقل اعتمادا على الصادرات بوجه عام، وعلى الصادرات للولايات المتحدة بوجه خاص، مقارنة بالوضع منذ عقد واحد مضى فقط
وينطبق الأمر نفسه على الحالة العكسية، أي الاتجاه نحو الحماية التجارية، وما يعقبها من حرب تجارية حيث لا ينتج عنها في النهاية سوى تعديلات ضئيلة في عجز ميزان المدفوعات، ويحدث ذلك عن طريق انخفاض حجم التجارة، والأمر المؤكد أن جميع الأطراف تحقق خسائر وإن بنسب متفاوتة أيضا.
ويعود عدم التماثل في تحقيق المكاسب والخسائر إلى وزن التجارة الدولية نسبة إلى الناتج في كل بلد من البلدان. فإذا ما أخذنا القوى الثلاث التجارية الكبرى في عالمنا وهي الصين والولايات المتحدة وألمانيا، نجد أن وزن التجارة في الولايات المتحدة بلغ نحو 14% في المتوسط من ناتجها المحلي الإجمالي خلال الفترة 2014-2016، بينما بلغت النسبة 20% في الصين و42.4% في ألمانيا، ولذا فألمانيا هي الأكثر تعرضا لأكبر الخسائر.
ومن هنا كان ذكاء تحرك الصين مؤخرا بزيارة رئيس وزرائها لألمانيا، والتأكيد أولا على ضرورة الحفاظ على حرية التجارة الدولية متعددة الأطراف والتي تستند إلى قواعد دولية مقبولة والابتعاد عن الحماية والعمل بشكل منفرد من جانب أي طرف من الأطراف. ثم جرى التوقيع على اتفاقيات تجارية تبلغ قيمتها 23.5 مليار دولار بين البلدين. وهو ما يعمل على تعزيز جهود الصين في مواجهة الولايات المتحدة، خاصة أن أوروبا الموحدة وبالذات ألمانيا تخشى بشدة من تحول السلع الصينية التي سيقل الطلب عليها في الولايات المتحدة إلى السوق الأوروبية.
في السياق نفسه، يشير بعض الاقتصاديين الأمريكيين إلى أن الصين تعد في موقف جيد إلى حد معقول لتجاوز هذه العاصفة. فاقتصاد الصين يعد أقل اعتمادا على الصادرات بوجه عام، وعلى الصادرات للولايات المتحدة بوجه خاص، مقارنة بالوضع منذ عقد واحد مضى فقط، فقد كانت نسبة الصادرات للناتج الصيني تبلغ ما يزيد على 31.1% في عام 2008، لتنخفض تلك النسبة إلى 18.8% فقط عام 2017. والأكثر أهمية أن القيمة المضافة للصادرات الصينية للولايات المتحدة تبلغ أقل من 3% من اقتصادها. ويعكس هذا حقيقة أن الصين تقع عند نهاية العديد من سلاسل القيمة الدولية، حيث تتضمن السلع المصدرة مكونات من إنتاج الولايات المتحدة، واليابان، وكوريا الجنوبية، وتايوان. ومن ثم فبعض الألم الناجم عن رفع التعريفات الجمركية الأمريكية سيضر بهذه الاقتصادات، وليس بالصين وحدها.
والوضع مماثل بالنسبة للولايات المتحدة، لكن الأمر المهم أنه من المؤكد ألا تتمكن الإدارة من تحقيق ما تصبو إليه من خفض للعجز التجاري وانتقال الصناعة للولايات المتحدة لتعزيز فرص العمل فيها تحت الشعار الذي تتبناه الإدارة "أمريكا أولا". فبوجه عام، يرى اقتصاديون أمريكيون أن الحرب التجارية سوف تدمر بعض الوظائف في قطاعات التصدير وتخلق بعض الوظائف في القطاعات المنافسة للواردات. إلا أن هذه المبادلة في رأيهم تعد مبادلة سيئة حيث تعد وظائف الصادرات بشكل عام هي الأعلى إنتاجية والأعلى أجورا.
وبينما يميل البعض للقول إن التأثر الأمريكي سلبيا من اندلاع الحرب التجارية سيكون محدودا، إذا لم يتم توسيع نطاق هذه الحرب، وذلك لأن خطة الحفز المالي المستندة إلى خفض الضرائب في الولايات المتحدة ستعمل على دفع النمو هذا العام. إلا أنه بحلول عام 2019، من المحتمل أن تصبح الآثار السلبية للحماية التجارية أكثر قوة بينما تضعف قوة الحوافز المالية. ولذلك لن يكون أمرا مدهشا أن نرى الولايات المتحدة في العام القادم وقد قبلت بالعرض الصيني المطروح على المائدة، وهو العرض الذي يقضي بزيادة واردات الصين من الولايات المتحدة من السلع الزراعية ومواد الطاقة ومن السلع ذات المحتوى التكنولوجي الراقي (إذا ما وافقت الولايات المتحدة على ذلك) كسبيل لخفض العجز التجاري. وربما تقبل الإدارة الأمريكية بهذا العرض بعد أن تعيد تغيير هيئته بعض الشيء بشكل يسمح لها بإعلان انتصارها في حرب التجارة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة