الصين تعمل على خفض فائضها التجاري مع الولايات المتحدة بالعمل على زيادة وارداتها من المنتجات الأمريكية وخفض صادراتها من بعض السلع لها.
تشير الأنباء إلى حدوث تقدم كبير في المحادثات التجارية بين الولايات المتحدة والصين. حيث تم على ما يبدو التوصل لاتفاقات في المجالات التي كانت تشكل عقدة المحادثات والسبب الأكثر أهمية وراء شن الولايات المتحدة لحربها التجارية منذ البداية. وتتركز هذه المجالات في صيانة حقوق الملكية الفكرية، وإرغام بكين للشركات الأمريكية الراغبة في الاستثمار في الصين على البوح بأسرارها التكنولوجية فيما تسميه الولايات المتحدة "النقل القسري للتكنولوجيا"، وأخيرا السياسة الصناعية الصينية التي تتمثل في تقديم دعم كبير للشركات الصينية لرفع قدراتها التكنولوجية والتنافسية أمام شركائها التجاريين.
وفي هذا الإطار يمكن وضع تصور عام لكيف يمكن أن يكون التحرك الصيني إزاء المطالب الأمريكية الرامية إلى خفض العجز التجاري معها، ومع استهداف الولايات المتحدة لتقييد قدرة الصين على التحول إلى اقتصاد متخصص في تصنيع وتصدير المنتجات التي تستند إلى التكنولوجيا الراقية.
وسوف تقبل الصين أن تعمل على خفض فائضها التجاري مع الولايات المتحدة بالعمل على زيادة وارداتها من المنتجات الأمريكية وخفض صادراتها من بعض السلع لها.
يكفي الموقف الأمريكي من شركة هواوي الصينية كنموذج لما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة من تقييد لانطلاقة الصين التكنولوجية ليس في سوقها فقط إنما في أجزاء أخرى من العالم. ومن هنا الإصرار على آلية تسير في الاتجاهين ولا تصوب على الصين فقط.
فستتجه أولا إلى زيادة وارداتها من الولايات المتحدة من كثير من السلع الأولية على حساب أطراف أخرى. فتتحول مثلا لشراء السلع الزراعية مثل فول الصويا من الولايات المتحدة بدلا من الأرجنتين والبرازيل، وربما أيضا اللحوم والدجاج وغيرها من السلع. وستزيد الصين أيضا من وارداتها من الغاز المسال الأمريكي على حساب وارداتها من أطراف أخرى، أو ستتم تغطية جزء كبير من الزيادة في الاستهلاك الصيني (وهي زيادة سنوية كبيرة خلال السنوات الثلاث الماضية) من الغاز الأمريكي. وينطبق الأمر نفسه على النفط.
أما في مجال خفض الصادرات فالتصور هو أن تتراجع بعض الصادرات الصينية من السلع ذات الاستهلاك الجماهيري الواسع مثل النسيج والملابس الجاهزة والأحذية ولعب الأطفال. حيث ستتخلى الصين عن إنتاج الكثير من هذه السلع مع انتقالها لإنتاج سلع ذات محتوى تكنولوجي أرقى. إذ تبقى هذه هي الطريقة التي تمت بها عملية تصنيع بلدان آسيا الناهضة، حيث كانت الدول التي تحقق تقدما على سلم التصنيع تترك السلع كثيفة العمالة والأقل من حيث المحتوى التكنولوجي للبلدان الأقل تقدما.
ولا يعني هذا بالطبع التخلي عن إنتاج هذه السلع تماما، بل المساهمة بدور مختلف فيها عبر منتجين آخرين. والمثال البارز هنا ما أشرنا إليه في مقال سابق حول صناعة النسيج والملابس الجاهزة. حيث أوضح تقرير لمنظمة التجارة العالمية أنه على الرغم من أن الصين ما زالت أكبر مصدر للنسيج والملابس الجاهزة في العالم، إلا أن هناك تبدلا كبيرا في دورها، فرغم استمرارها كأكبر مصدر للملابس الجاهزة، إلا أن نصيبها من السوق العالمي انخفض. كما تقلص نصيب الصين في الأسواق الكبرى الثلاثة المستوردة للملابس الجاهزة وهي الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، واليابان خلال الأعوام الخمسة 2013-2017.
ويبين تقرير المنظمة أن الصين أصبحت أكثر تخصصا في عام 2017 في مجال تصدير النسيج أكثر من تصدير الملابس الجاهزة. حيث هبطت حصة الصين من الملابس الجاهزة من ذروة بلغت 38.8% من الإجمالي العالمي في عام 2014 إلى 34.9% في عام 2017. بينما صعدت حصتها في صادرات المسنوجات لتبلغ الذروة في عام 2017 بنسبة 37.1%. وأصبحت الصين تلعب دورا محوريا كمورد للنسيج للعديد من الدول التي تقوم بتصدير الملابس مثل بنجلاديش وفيتنام وكمبوديا وإندونيسيا والفلبين وسيريلانكا وغيرها.
ورغم هذا ستبقى الصين تلعب دورا مهما أيضا في صادراتها من الملابس الجاهزة والسلع الواسعة الاستهلاك الأخرى. وهذا الأمر متكرر فرغم تقلص دور الدول المتقدمة في صادرات النسيج والملابس الجاهزة، إلا أنها ما زال لها وزن عالمي كبير. فقد كانت الدول الأكثر تصديرا للمنسوجات في عام 2017 تشمل كلا من الصين، والاتحاد الأوروبي، والهند، والولايات المتحدة على الترتيب. بينما في مجال الملابس الجاهزة جاءت الصين، والاتحاد الأوروبي، وبنجلاديش، وفيتنام كأهم أربعة مصدرين. أي أن تبدل الأدوار لن يقضي على المكانة المهمة.
ولكن غاية ما نود التأكيد عليه هو أن الصادرات الصينية للولايات المتحدة من الملابس الجاهزة مثلا ستنخفض لصالح بلدان أخرى تقدم لها الصين جزءا كبيرا من مكونات هذه الصناعة، وفي النهاية ستسجل هذه الصادرات لحساب البلد الذي قام بتصدير السلعة النهائية مثل بنجلاديش أو فيتنام مثلا، وهو ما يعني انخفاض الصادرات الصينية من هذه السلع للولايات المتحدة، وإن ظل جزء كبير من مكوناتها هو في حقيقته صيني المنشأ.
وفي المدى المنظور لا يمكن تصور أن يتم التخلص من العجز التجاري الأمريكي مع الصين، فنحن نتحدث عن عجز بلغ 419 مليار دولار خلال العام الماضي، وبالتالي فالمتاح هو حدوث خفض جوهري في هذا العجز عبر الأسلوبين السابق الإشارة إليهما زيادة الواردات الصينية من الولايات المتحدة وخفض صادراتها إليها.
يتبقى كما تذكر وكالات الأنباء على طريق التوصل لاتفاق نهائي عقبتين أولهما وضع آلية دقيقة ومنضبطة لتنفيذ ما يتم التوصل له من اتفاقات، وثانيهما المدى الزمني لإلغاء الرسوم الجمركية. فالولايات المتحدة ستميل بالطبع إلى الإلغاء التدريجي للرسوم مع ما تراه من تنفيذ الصين لالتزاماتها حسب الاتفاق. وبالطبع فلن تقبل الصين هذا للنهاية، حيث لن تكون موضع اختبار في اتفاق ثنائي يلتزم به الطرفان.
أيضا في مجال آلية التنفيذ ترمي الولايات المتحدة بشكل أساسي كما ذكرنا آنفا تقييد قدرة الصين على الانطلاق في خطط تقدمها الصناعي. لكن إمكانية مراقبة السياسة الصناعية الصينية خاصة ما يقدم من دعم للشركات المحلية هو أمر صعب للغاية، كما أن أعمال التجسس الصناعي أمر تقوم به كل الدول والشركات بما فيها الولايات المتحدة ذاتها، بل إن أعمال التجسس الصناعي تقوم بها شركات كل دولة ضد بعضها.
ويبقى أيضا في النهاية مع إقرار الصين بأهمية آلية تنفيذ الاتفاقات إصرارها على أن تكون متبادلة، أي عدم القبول بأن تكون هناك آلية ملزمة لها تقيدها، بينما تكون الولايات المتحدة مطلقة السراح في فعل ما تريد. ويكفي الموقف الأمريكي من شركة هواوي الصينية كنموذج لما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة من تقييد لانطلاقة الصين التكنولوجية ليس في سوقها وفقط وإنما في أجزاء أخرى من العالم. ومن هنا الإصرار على آلية تسير في الاتجاهين ولا تصوب على الصين فقط.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة