تكمن أهمية الفن في كونه مصباحا كاشفا ليس للنفس البشرية فقط وإنما كاشف لكثير من المعادلات المعقدة التي يصعب فهمها بدونه
نظرية دراسة المتلقي، أو دراسة ميول الجماهير نظرية مهمة جدا تعمل بها الدول الكبرى في رسم سياساتها العامة في الداخل والخارج.
فيلم "الممر" الذي نحن بصدد دراسة وعي وميول الجماهير من خلاله، هو وسيلة أو أداة نسعى من خلالها إلى الغاية الأهم وهي فهم الجماهير والشعوب فهما قد يؤدي إلى إعادة رسم سياسيات الدول أو تغير المسارات الوطنية داخليا وخارجيا، فليس الأمر مجرد دراسة نقدية لعمل فني، بل دراسة للشعوب من بوابة ومرآة العمل الفني وهذا هو الفرق الذي أريد التأكيد عليه وأنا أطرح تلك النظرية.
نحن أمام حالة تستحق دراسة معمقة لفهم ذلك المشاهد الذي يقبل على فيلم ويمتنع عن فيلم آخر يحمل نفس المواصفات وفي كل الحالات هو ليس على خطأ في الحالتين، وليس أيضا إقباله على عمل دون الآخر يعني أن هناك عملا أهم من العمل الآخر، وإنما هي سيكولوجية المتلقي
هذا هو لغز المشاهد الذي نسعى إلى فهمه ويجب ألا نحكم عليه. لماذا يُقبل المشاهدون على فيلم ولا يقبلون على مشاهدة فيلم آخر يحمل نفس المواصفات مثلا؟
سأقارن هنا بين فيلم "الممر" الذي نحن بصدده وفيلم "حائط البطولات" الذي حمل نفس المواصفات وحتى الموضوع بالعكس يتفوق على فيلم "الممر" بنجومه الكبار.
فيلم "حائط البطولات" وصلت ميزانية إنتاجه 16 مليون دولار وهو رقم كبير إذا قورن بزمن إنتاج الفيلم وهو عام 1998، وقد توفرت له جميع الظروف التي تجعله فيلما يكتسح شباك التذاكر، فقد بدأ إنتاج الفيلم عام 1998 ثم منع بأوامر من الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك بسبب ما قيل إن الفيلم لم يتطرق لبطولات سلاح الطيران الذي كان مبارك يقوده وينتمي إليه.
وبعد ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 أعيد طرح الموضوع وفعلا عرض الفيلم في 2014 ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي، ثم أعيد عرضه على شاشات القنوات الفضائية في 2016 تواكبا مع احتفالات نصر أكتوبر.
كل الذي ذكرته من خلفيات لو توفرت لأي فيلم ستحقق نجاحا منقطع النظير، معروف أن أي فيلم يمنع يثير فضول الناس لمشاهدته، المنع وسيلة ترويج كبرى لأي عمل فني.
عرض في 2014 بعد ثورة 30 يونيو 2013 في أوج حالة وطنية متعالية في حب مصر، ورغم ذلك فالجمهور لم يستقبله ذلك الاستقبال المتوقع لا في السينما ولا حتى حين دخل جميع البيوت وعرض على شاشات القنوات الفضائية.
إذاً نحن أمام حالة تستحق دراسة معمقة لفهم ذلك المشاهد الذي يقبل على فيلم ويمتنع عن فيلم آخر يحمل نفس المواصفات وفي كل الحالات هو ليس على خطأ في الحالتين، وليس أيضا إقباله على عمل دون الآخر يعني أن هناك عملا أهم من العمل الآخر، وإنما هي سيكولوجية المتلقي، التي يجهلها هو ويحتاج إلى من يساعده في فهمها.
ما الذي يجب أن نفهمه حول مواقف وانتماءات وميول المواطن المصري الذي أقبل على مشاهدة فيلم "الممر" ولم يقبل على مشاهدة فيلم "حائط البطولات" بنفس الحماسة؟
سأحاول أن أتجرد قليلا من الحالة المصرية، وأنتقل إلى الحالة الأمريكية عبر استحضار تجربة فيلم مثل فيلم "أفاتار" الذي قدم عام 2009 فقد كان وسيلة مهمة عرف الأمريكيون من خلال الإقبال الشديد عليه سياساتهم الخارجية، فنجاح الفيلم خارجيا كان مؤشرا مهما على الكره والرفض الذي تحمله الجماهير في البلاد الإسلامية لأمريكا.
وسأوضح هنا كيف تعامل السياسيون في أمريكا مع النجاح الكبير الذي حققه الفيلم انطلاقا من زاوية المتلقي أو المشاهد وليس انطلاقا من المكونات الفنية للفيلم.
فيلم "أفاتار" عرض عام 2009 بلغت تكلفة إنتاجه 230 مليون دولار، حقق فقط في الأسبوع الأول 278 مليون دولار، وبعد عشرة أسابيع تجاوز العائد 2 مليار دولار ليتفوق على فيلم "تايتنك".
نجح الفيلم خارجيا وداخليا في نفس الوقت رغم أنه يقدم إدانة واضحة للسياسة الأمريكية التي تقوم على التوسع وإدارة حروب خارج أراضيها بدافع السطو على مقدرات الشعوب الأخرى، الفيلم يدور حول احتلال مكان ما، لأن المحتل اكتشف أن هذا المكان به الكثير من الكنوز والمعادن.
شيفرة نجاح الفيلم تأتي من كونه يقدم نهاية مهمة وهي انهزام المستعمر وانتصار أصحاب الأرض، حين تتضافر جميع القوى وتحارب الطبيعة والأرض مع أهلها. اعتبرت الشعوب هذا الفيلم بمثابة صرخة في وجهة الظلم والاستعمار.
كان الموقف السياسي الرسمي كارها للفيلم تجلى ذلك في عدم فوزه بالأوسكار، رغم أنه الأفضل في تاريخ السينما الأمريكية والعالمية. أهمية هذا الفيلم للسياسيين الأمريكيين أنه حمل الإجابة التي ظلت مؤجلة منذ 2005 على السؤال الكبير "لماذا يكرهوننا؟" أو كما أطلق الدكتور فريد رفيق زكريا، الإعلامي الأمريكي المسلم ذو الأصول الهندية وأستاذ السياسة، مصطلح "صناعة الكراهية" حين أكد أن أمريكا هي التي صنعت الكراهية.
في عام 2005 أطلقت الخارجية الأمريكية حملة علاقات عامة لتصحيح صورة أمريكا في العالم الإسلامي برئاسة "كارين هيوز" مستشارة الرئيس الأمريكي بوش الابن لشؤون الدبلوماسية الشعبية في الخارجية الأمريكية.
اختاروا ثلاث دول إسلامية لاختبار هذه الحملة "مصر – تركيا – السعودية"، هي دول تنتمي إلى محور الاعتدال وليست دولا معادية لأمريكا ورغم ذلك كانت نتائج الزيارة في غير صالح الأمريكيين.
التقت "كارين هيوز" بقيادات دينية في هذه الدول وبقيادات ليبرالية وكتبت تقريرا مؤلما للأمريكيين بأن معدل الكره يزداد والأسباب متعددة لكن من الصعب تحديد سبب يمكن البناء عليه سياسيا. انتهت تلك الحملة الفاشلة وبقي الكره غامضا حتى إنتاج وعرض فيلم "أفاتار" عام 2009.
وبعد الإقبال الجماهيري على الفيلم خصوصا في الخارج بدأوا "دراسة الجمهور" اكتشفوا التيمة التي تجمع المشاهدين في الداخل الأمريكي والخارج حولها، وهي تيمة احتلال بلد آخر والسيطرة على مقدرات شعب بدافع المكاسب ومقدرات الشعوب.
هنا عرفوا الأسباب التي لم تنجح "كارين هيوز" في طرحها وهي "سياسات أمريكا التوسعية والإمبريالية"، التي تجسدت في احتلال بلدين مسلمين، أفغانستان 2002 والعراق 2003.
في المحصلة تكمن أهمية الفن في كونه مصباحا كاشفا ليس للنفس البشرية فقط وإنما كاشف لكثير من المعادلات المعقدة التي يصعب فهمها بدونه. يقولون: الفيلسوف أو المفكر يساعدك في فهم الكون، وعالم الدين يساعدك في فهم علاقتك بالله، أما الفن فهو الذي يكشف لك علاقتك بذاتك، عندها سيكون من السهل عليك فهم بقية العلاقات بالله وبالكون.
وتناول أي عمل فني لا بد أن يتم من خلال معادلته التي تقوم على أن هناك عملا فنيا أيا كان نوعه ومتلقي هذا العمل "مشاهد أو مستمع أو قارئ".
الكل يركز على دراسة العمل وآن الأوان أن نركز أيضا على دراسة المتلقي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة