المتغير الأكبر حدث حينما دخل الفيلم جميع البيوت وعُرض على الشاشات الفضائية، وهنا ظهر هذا الإقبال والتفاعل الكبير مع الفيلم
تصدر الفيلم المصري "الممر" تريند التفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية بعد أن تم عرضه على شاشة القنوات الفضائية ليتواكب ذلك مع الذكرى السادسة والأربعين لانتصارات أكتوبر، بعد أن عُرض أولا في صالات السينما في شهر يونيو وحقق أيضا إقبالا جماهيريا كبيرا.
الجديد الآن الذي أريد أن أتطرق إليه، وهو غير المتبع في دراسة جماهيرية وانتشار الأعمال الفنية، "دراسة المتلقي وليست دراسة العمل الفني"؛ أي دراسة سيكولوجية المتلقي أكثر من دراسة فنيات العمل الإبداعي، وهذا هو الجديدلكن المتغير الأكبر حدث حينما دخل الفيلم جميع البيوت وعُرض على الشاشات الفضائية وهنا ظهر هذا الإقبال والتفاعل الكبير مع الفيلم، فمن البديهي أن عرض أي فيلم في السينما لا يمكن يحقق مشاهدة مثلما يعرض على قنوات فضائية.
طبعا كثيرون كتبوا عن الأسباب التي جعلت الناس تقبل على هذا الفيلم بهذه الطريقة، وجميعهم ركزوا على دراسة الفيلم نفسه ومكوناته من تمثيل وإخراج وسيناريو وديكور وموسيقى وغيرها، وهناك أيضا من تحدث عن موضوع الفيلم وتاريخ عرضه، وهذا شيء مقدر ومهم لمعرفة أي عمل فني وتقييمه.
لكن الجديد الآن، الذي أريد أن أتطرق إليه وهو غير المتبع في دراسة جماهيرية وانتشار الأعمال الفنية، هو "دراسة المتلقي وليست دراسة العمل الفني"؛ أي دراسة سيكولوجية المتلقي أكثر من دراسة فنيات العمل الإبداعي وهذا هو الجديد.
فيلم "الممر" هو فيلم بدأ تصويره في 2018 وتم بناء ديكوراته بالكامل، ويعد من أكثر الأفلام تكلفة في تاريخ السينما المصرية؛ إذ تكلف 100 مليون جنيه مصري، وحقق إيرادات 74 مليون ونصف المليون في السينما، الفيلم يستقي موضوعه من وحي قصة حقيقية وقعت أحداثها إبان حرب الاستنزاف بعد هزيمة 67، حيث تدور القصة حول تدمير معسكر لجيش الاحتلال الإسرائيلي وأسر قائده.
أما شخصية بطل الفيلم "نور" هي نفسها شخصية "البطل إبراهيم الرفاعي" قائد المجموعة 39 قتال صاعقة، والذي سبّب الرعب للإسرائيليين منذ حرب الاستنزاف حتى انتصارات أكتوبر وتحديدا يوم الجمعة 19 أكتوبر 1973 وهو يوم استشهاده.
البطل إبراهيم الرفاعي قام بمئات العمليات الفدائية غير تلك التي تابعناها في الفيلم، فهو دمر قطارا ممتلئا عن آخره بالجنود الإسرائيليين، ونسف ودمر العديد من مخازن الأسلحة والذخيرة الإسرائيلية وغيرها من عمليات كُتبت جميعها بأحرف النور والشرف.
هذا الفيلم بهذه التفاصيل قد لا يصنف إطلاقا بأنه فيلم جماهيري، خصوصا إذا قسناه على بقية الأفلام التي دارت حول الموضوع نفسه مثل "الرصاصة لا تزال في جيبي 1974، والعمر لحظة 78، وأبناء الصمت 74"، وغيرها من أفلام.
هذه الأفلام اعتدنا تصنيفها باعتبارها أفلام مناسبات تُعرض في المناسبة وتعود لتنام في الأدراج إلى أن يأتي العام الذي يليه وهكذا.
لماذا فيلم "الممر" حقق هذا التفاعل الجماهيري والشعبي الكبير في مصر؟ طبعا تناول عوامل وعناصر جودة الفيلم مهمة جدا لكن في تصوري ليست هي الأهم في تفسير نجاح الفيلم، الأهم في اعتقادي هو سيكولوجية المتلقي، المزاج العام للمشاهد المستهدف من الفيلم وهو الشعب المصري.
أحيلكم هنا إلى بعض الأعمال الفنية التي خلقت نسبة مشاهدة عالية رغم رداءتها وضعفها وهنا لا أقصد بذلك فيلم "الممر".
أذكر أنني كتبت مقالا سابقا بعنوان "الأصلح والأشهر" وذكرت وقتها أن كثيرا من الأفلام والأعمال الفنية تنطبق عليها تلك المقولة "الأشهر ليس الأصلح على الإطلاق" وهنا أذكر "فيلم اللمبي" بطولة محمد سعد، وأغنية علي حميدة "لولاكي" ورواية "عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني.
هذه الأعمال على الرغم من أنها حققت مشاهدة وتفاعلا جماهيريا كبيرا، فإنها لم تكن على مستوى الجودة الفنية، ولم تكن الأصلح على الإطلاق، هناك أفلام أهم بكثير من فيلم "اللمبي" وأغانٍ ومطربون أهم بكثير من "علي حميدة" وأيضا روايات أهم بكثير من "عمارة يعقوبيان" لكن لماذا تفاعل معها الجمهور على الرغم من أنها ضعيفة الجودة الفنية؟
هذا هو السؤال المهم علينا أن نبحث عن ذلك لكل عمل على حدة، تبعا لمزاجية وسيكولوجية ووعي المشاهد، ومن الخطأ الكبير وغير المقبول أن نحكم على الجمهور أو نقول إن الجمهور خطأ، لأن الجمهور لا يمكن أن يكون خطأ، وإنما أي دراسة للجماهير ولحركات الشعوب يجب أن تدرس ونسعى إلى تفسيرها لا أن نحكم عليها سلبا أو إيجابا.
أعود لفيلم الممر "طبعا الفيلم قيمته الفنية عالية، وأداء الممثلين متقن" وجميع العناصر مهمة، لكن ليس هذا هو سبب إقبال الناس على مشاهدته بهذه الكثافة، لأن الناس نفسها أقبلت على مشاهدة اللمبي بالكثافة نفسها أيضا، على الرغم من أن الفيلمين مختلفان تماما في الجودة.
والجمهور الذي استمع إلى أغنية "لولاكي" لعلي حميدة هو نفسه الذي يستمع إلى أم كلثوم رغم الهوة الفظيعة بين الاثنين، إذا مَن يريد أن يفسر نجاح أي عمل عليه أن يتبع تلك النظرية الجديدة، وهي دراسة سيكولوجية المتلقي.
وهنا سأحاول أن أدخل إلى تلك الدراسة أو تلك النظرية من عدة مداخل مهمة؛ أولها "حالة اللاوعي الحاكمة، وثانيا المؤثرات العامة، والوعي بالخطوط الحمراء لطبيعة الشعب المصري باعتباره هو المتلقي الأول".
نبدأ بالمدخل الأول وهو حالة اللاوعي الحاكمة، وأؤكد في البداية أنه ليس من الضروري أن أي مشاهد أو مواطن تابع الفيلم وأعجب به يعرف ما أشير إليه، وإنما هو يتصرف بدوافع كثيرة ليس شرطا أن يكون مدركا لها أو يستطيع ذكرها "لذلك أطلق عليها حالة اللاوعي الحاكمة".
أولها القدوة المفقودة والمرتجاة في آن واحد، وهذا يحققه الفيلم، فهو يتحدث عن بطل حقيقي الجمهور يعرفه أو يسمع عنه، وهو إبراهيم الرفاعي أو "نور" كما هو موجود في الفيلم، وينجح رغم هزيمة 67 في تحقيق نصر بحسابات المنطق هو مستحيل.
وبالتالي يقبل الجمهور المصري على الفيلم بدافع اللاوعي الذي يجعله يلتف حول البطل الموجود في الفيلم باعتباره النموذج المفقود في الواقع المصري، وهنا تتضح طبيعة وسيكولوجية الجمهور المصري التي تحتاج إلى دراسة فقد يقبل الجمهور على شيء ليظهر رفضه أو تأييده لنقيضه.
فإقبالهم على شخصية الضابط "نور" في الفيلم هو إعلان رفض لواقع لم يقدم لهم نموذجا يشبه "نور" رغم يقينه بأن مصر ولادة، وجيشها خزان للوطنية والشجاعة.
الآن أنتقل إلى المؤثرات العامة التي خلقت مزاجية للمشاهد جعلته يتحرك نحو الفيلم، فإن عرض الفيلم على شاشات القنوات الفضائية المصرية جاء بعد هجمة خارجية ضد الجيش المصري أو ضد أفراد في الجيش المصري، لأن الجيش المصري أكبر من تلك المراهقات الصغيرة.
وبالتالي كان الإقبال على الفيلم وسيلة لأن يظهر ذلك الجمهور المصري رفضه لتلك الهجمات، ويظهر تأييده للجيش والتفافه حول قياداته في الوقت نفسه. وهنا أشير ضمنا إلى فكرة الخطوط الحمراء للشعوب بشكل عام وللشعب المصري بشكل خاص.
الذين درسوا طبيعة وتركيب وحركية الشعوب في العالم استقروا على أن لكل شعب خطوطا حمراء، وحدودا محرمة لا يقبل هذا الشعب الاقتراب منها أو المساس بها.
وتبعا لما كتبه العلامة الكبير الراحل جمال حمدان وغيره من الذين اشتغلوا على دراسة تكوين الشعب المصري، استقر الجميع على أن الأرض هي الخط الأحمر للمصريين، لذلك العقل الشعبي كان معبرا عن ذلك من أول أغنيات الفلكلور التي تسخر ممن يبيع أرضه "أغنية عواد باع أرضه".
الأرض في الذهنية المصرية هي الخط الأحمر غير المسموح الاقتراب منه وبعدها يأتي "العرض" أو الشرف. وطبعا هذا تفسير منطقي لطبيعة الشعوب الزراعية خصوصا مصر التي هي "الرحم التي أنجبت بقية الحضارات أو هي فجر الضمير الإنساني". وطبعا فيلم "الممر" طيلة الوقت يحكي قصة أبطال يبذلون أرواحهم من أجل استعادة الأرض التي احتلها الإسرائيليون..
نكمل في المقال القادم
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة