لا بد من أن يؤخذ الأمر بالجدية اللازمة حتى لا نسير في طريق السقوط الثقافي والفكري الذي يعد مقدمة للانهيار الاجتماعي والسياسي
في حالة متوترة من معالجة الأعراض لا الأمراض، انصب سخط النخبة المصرية، وحنقها على ظاهرة فنية غير مقبولة ثقافياً أو أخلاقياً، وفي خضم هذه الحالة من الغضب الغرائزي المنفلت، نسي المثقفون وأصحاب الرأي أن الفنون جميعها هي تعبير صادق عن حالة أي مجتمع في لحظة تاريخية بعينها، فإذا ارتقت الفنون، وسارت في مسالك تنهض بالعقل، وتسمو بالروح، وترتقي بوجدان الإنسان، فهذا يعني أن المجتمع ذاته قد حقق من النضج والتطور درجة تولَّد عنها فن يعبر عن حالة المجتمع، ومستوى رقيه، والعكس بالعكس.
الخطير في الأمر أن هذه العبثية قد أصبحت هي جوهر الوجود الفكري والثقافي المعاصر، هي حالة كثير من المثقفين والكتاب؛ خصوصا أولئك الذين يحتلون مواقع الصدارة في المشهد الثقافي، ولكنهم ليسوا ثائرين على الواقع، أو رافضين له مثل ابن سودون
وسط هذا المشهد المأساوي يطل علينا الشاعر المملوكي علي بن سودون، الذي ولد في القاهرة عام 810هـ 1407م، وتوفي في دمشق عام 868هـ 1463م، كتب بالعامية المصرية والعربية الفصحى، له ديوان شعر عنوانه "نزهة النفوس ومضحك العَبُوس"، ابن سودون هذا هو نموذج تاريخي للمثقف والفنان المصري المعاصر؛ الذي يؤلف الأغاني، ويكتب سيناريو الأفلام والمسلسلات، حتى وإن كان الفارق الزمني يقترب من خمسة قرون، لأن الظروف المتشابهة تنتج ظواهر متشابهة.
لابن سودون نظرية عبقرية تعرفها إذا قرأت شعره، وتراها واقعاً في كل من حولك، وفي كل ما تقرأ، أو تسمع في الفضائيات ليل نهار، يقدم لنا ابن سودون نظريته في أبيات من الشعر تقول:
إذا الفتى في الناس بالعقل قد سما … تيقن أن الأرض من فوقِها السما
وأن السما من تحتها الأرضُ لم تزل … وبينهما أشيا إذا ظهرت تُرَى
وإني سأبدي بعض ما قد علمتُه … ليُعْلمَ أني من ذوي العلم والحجَى
فمن ذاك أن الناس من نسل آدم … ومنهم أبو سودون أيضا ولو قضى
وأن أبي زوجٌ لأمي، وأنني … أنا ابنهما، والناس هم يعرفون ذا
ولكن أولادي أنا لهمُ أبٌ … وأمهم لي زوجةٌ يا أولي النُّهَى
ومن قد رأى شيئا بعينيه يقظةً … فذاك لهذا الشيء يقظان قد رأى
وكم عجب عندي بمصر وغيرها … فمصر بها نيلٌ على الطين قد جرى
بها الفجر قبل الشمس يظهر دائما … بها الظهر قبل العصر قيلاً بلا مِرا
بها النجم حال الغيم يخفى ضياؤه … بها الشمس حال الصحو يبدو لها ضيا
وعندي علوم بعد هذي كثيرةٌ … تدلُ على أني من أعقلِ الناس يا فتى
وما علمتني ذاك أمي ولا أبي … ولا إمراة قد زوجاني ولا حما
ولكنني جربتها فعرفتها … وحققتها بالفهم والحذق والذكا
فيا بخت أمي بي ألا يا سرورها …إذا سمعت أني أفوق على جحا
من حق ابن سودون إذن أن يفخر بعلمه، ويتنازل ويستعرض علينا بعضه؛ لنعلم أنه من أصحاب العقول الراسخة، فيضع صياغة لغوية رائعة، ولكنها دون معنى، دون فكرة، كل ما فيها تكرار لبديهيات الواقع؛ التي لا يختلف حولها اثنان؛ قمة في العبثية والاستخفاف بالعقول والواقع، هي تعبير تاريخي عن المهرجانات الغنائية في عصرنا، وعن أفلام تجار اللحوم، وعن حالة الضحالة والضآلة الفكرية التي نعيشها.
ويزيدك ابن سودون علما ومعرفة فيقول:
الأرض أرضٌ والسماء سماءُ … والماء ماءٌ والهواء هواءُ
والروض روضٌ زينته غصونُه … والدوح دالٌ ثم واوٌ حاء
والبحر بحرٌُ والجبال رواسخٌ … والنور نورٌ والظلام عماءُ
والحر ضد البرد قولٌ صادقٌ … والصيف صيفٌ والشتاء شتاءُ
والمسك عطرٌ والجمال محببٌ … وجميع أشياء الورى أشياءُ
والمرُّ مرٌّ والحلاوة حلوةٌ … والنار قيل بأنها حمراءُ
والمشي صعب والركوب نزاهةٌ … والنوم فيه راحة وهناءُ
كل الرجالِ على العموم مذكرٌ …أما النساءُ فكلهن نساءُ
ولكن الفارق بين الواقع التاريخي وواقعنا المعاصر أن ابن سودون كان شاعراً وأديباً وملماً بعلوم الفقه والتاريخ، وقد أسهم في إنشاء مسرح خيال الظل بعد ابن دانيال في دمشق، وشعره هذا ليس عبثيا، وإنما ينم عن فلسفة عميقة لواقع يوشك على التحلل والانهيار، فقد عاش في أواخر دولة المماليك، وتوفي قبل سقوطها بنصف قرن فقط، لذلك يمثل شعره هذا حالة من الرفض الاجتماعي والسياسي لواقع عديم المعنى مأزوم، أما الظواهر الفنية المعاصرة فهي جزء لا يتجزأ من الأزمة، بل أصبحت واحدة من آليات استمرارها وانتشارها وتضخمها.
والخطير في الأمر أن هذه العبثية قد أصبحت هي جوهر الوجود الفكري والثقافي المعاصر، هي حالة كثير من المثقفين والكتاب؛ خصوصاً أولئك الذين يحتلون مواقع الصدارة في المشهد الثقافي، ولكنهم ليسوا ثائرين على الواقع، أو رافضين له مثل ابن سودون، بل على العكس؛ هم يؤسسون للعبثية، ويحتفون بها، ويرسخون قواعدها، ويرتزقون منها وبها، ويحافظون عليها، بل والأدهى من ذلك يقنعوننا أنها عين الإبداع، وقمة التحضر والتقدم.. لذلك لا بد من أن يؤخذ الأمر بالجدية اللازمة حتى لا نسير في طريق السقوط الثقافي والفكري الذي يعد مقدمة للانهيار الاجتماعي والسياسي، لأن سرعة العصر ستحول نصف قرن دولة المماليك إلى نصف عقد، أي تجعل الخمسين سنة التي أخذتها دولة المماليك لكي تسقط تحت سنابك خيل السلطان العثماني في مرجع دابق شمالي حلب الشهباء، إلى خمس سنين فقط نسقط فيها تحت حوافر حمير السلطان العثماني والشاه الصفوي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة