تذهب أدبيات علم الاجتماع إلى أن مفهوم "الطريق الثالث" هو أحد تعبيرات البابا بيوس الثاني عشر في أواخر القرن التاسع عشر.
حينما دعا إلى طريق ثالث بين الاشتراكية والرأسمالية، ومنذ ذلك الحين شاعت مفاهيم شبيهة به، أبرزها الطريق الوسط، غير أن مفهوم "الطريق الثالث" تم تسويقه على لسان توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، وكذا الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون الذي تحدث عن أنه وجد طريقًا ثالثًا أكثر قدرة على الموازنة بين المصالح والفئات المختلفة. إلا أن فكر الطريق الثالث ينسب إلى البريطاني أنتوني جيدنز المفكر والمنظّر الاجتماعي والسياسي لحزب العمال، وهو الحزب المعروف باعتناقه الاشتراكية الديمقراطية التي بدأت جذورها في أواخر القرن التاسع عشر، إذ تشير سياسة الطريق الثالث إلى إطار للتفكير وصوغ سياسة هدفها ملاءمة الديمقراطية الاشتراكية؛ بمعنى أنه محاولة لتجاوز كل الأساليب القديمة للديمقراطية الاشتراكية، وأيضًا الليبرالية الجديدة، فهو استجابة جديدة براغماتية، لما نواجهه من قضايا سياسية في عالم اليوم".
وفي ذلك تبلورت ثلاثة اتجاهات رئيسية في مجال التعريف بالمقصود بالطريق الثالث، الاتجاه الأولى يعتبره أنه هو الطريق الوسط بين بديلين: "البديل الأول هو أنساق للتنظيم الاقتصادي والاجتماعي "سواء كانت رأسمالية أو اشتراكية،" والبديل الثاني هو مبادئ لتخصيص الموارد "بين السوق والدول، "سواء من خلال النماذج الرأسمالية "كالنموذج الأمريكي في مواجهة النموذج الأوروبي" أو من خلال طريق آيديولوجي وسط يقع بين اليسار القديم واليمين الجديد.
أما الاتجاه الثالث فيعتبر الطريق الثالث صيغة معدّلة للاشتراكية الديمقراطية، والتي تقدم بديلاً واضحًا للمشروع الليبرالي الجديد الذي برز في الثمانينيات من القرن الماضي، من خلال تطبيق مستحدث لمبادئ تلك الديمقراطية الاشتراكية، بما يستجيب للظروف الراهنة. أما الاتجاه الثالث فيرى أن الطريق الثالث قد يشير إلى تآلف جديد وغريب جامد للأفكار ينتمي بعضها إلى ما يسمى اليسار الراديكالي، ومن ثم ينزع إلى الاعتراف بحدوث انقطاع جديد في الاستمرارية السياسية؛ ما يجعل اليقينيات السياسية الجاهزة مسألة تجاوزها الزمن.
وبناء عليه، فقد أجمل أنتوني جيدنز أحد أهم علماء الاجتماع الإنجليز في القرن العشرين، الطريق الثالث في ست قيم أساسية؛ وهي: المساواة، حماية الجماعات المهمشة، الحرية، لا حقوق من دون واجبات، لا سلطة من دون ديمقراطية، التعددية الثقافية، النزعة الفلسفية المحافظة.
وبالتالي، فإن الطريق الثالث يعد مساهمة من قبل مفكرين وسياسيين بدأت منذ نهايات القرن التاسع عشر ومستمرة حتى الآن لمحاولة رأب الصدع بين المدارس الفكرية الأشهر، ولا سيما المدرستين الاشتراكية والليبرالية من أجل تمكين الفئات وجماعات أخرى سياسيا واجتماعيا واقتصاديا؛ أي أنه نموذج لتعزيز الديمقراطية بالتركيز على توسيع دائرة المستفيدين منها والمساهمين فيها.
وقد كانت منظمات المجتمع المدني، بما تحويه من فئات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية متعددة، رأس الحربة للطريق الثالث، من خلال تمكين تلك المنظمات من لعب دور حيوي يعيد إلى العالم توازنه الاجتماعي قبل السياسي والاقتصادي. بعيدا عن الدولة وتدخلها المباشر والشامل في تطور المجتمع والنهوض به، وهو ما يطلق عليه الطريق الأول، أو ترك الساحة ينفرد بها القطاع الخاص بما يملكه من نهم نحو تحقيق تنمية اقتصادية خاصة بعيدة عن تلك الأبعاد الاجتماعية والسياسية العامة في عملية التنمية، وهو ما يسمى بالطريق الثاني.
فالطريق الثالث تقوده منظمات المجتمع المدني، وهو يهدف إلى تعزيز الاشتراكية الديمقراطية بمفهوم جديد يبتعد عن اليوتوبيات الماركسية والاجتهادات النظرية للاشتراكيين المعاصرين، التي ثبت عدم قدرتها على تحقيق تلك التنمية الإنسانية بمعناها الشامل.
نقلا عن أخبار الخليج
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة