كما كان متوقعا، وكما جرى في مجلس الأمن من فشل، فإن الجمعية العامة للأمم المتحدة لم تنجح أيضا في التوصل لآليات حقيقية للتعامل مع تطورات الموقف الروسي.
ومنطلقاته التي ما زال يحكمها منطق تصاعدي وتصعيدي معا، وفي اتجاه الاستمرار في عسكرة الأزمة، وعدم العمل علي تفكيك عناصرها السياسية والاستراتيجية مع الإمعان في تكريس سياسة الأمر الواقع روسيا، وعدم تقديم تنازلات، وهو ما اتضح من جلسة الحوار الأولى ين الجانبين التي جاءت في سياقات عاجلة، وبدون ترتيبات محددة، وهو ما يؤكد على عدة اعتبارات يجب تفهم أبعادها، والتي ستحكم إدارة المشهد التالي.
أولا: جاء الإعلان عن المفاوضات بين وفدي روسيا وأوكرانيا في الوقت الذي أمر فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بوضع أسلحة الردع الروسية في حالة تأهب خاص، دون أن يشير إلى الأسلحة النووية على وجه الخصوص، وهو ما قابله إعلان وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن بالتأكيد على أن إدارة الرئيس جو بايدن بصدد النظر في سبل تدريب القوات الأوكرانية عن بعد حال سيطرة روسيا على أوكرانيا، وبحث المسئولين العسكريين وسائل تقديم مزيد من المعدات الدفاعية - بما في ذلك الذخيرة- للقوات الأوكرانية، لكن الأمر أكثر صعوبة الآن مع توغل القوات الروسية، التي جاءت من بيلاروسيا، كانت على بعد 20 ميلا من خارج كييف، الأمر الذي يشير إلى أن إدارة بإيدن ستدعم حكومة الرئيس زيلينسكي ما دامت قائمة مما يثير تساؤلات بشأن استمرار الدعم الأمريكي حال هروب الرئيس، أو أسره، أو اختفائه مما يعني وجود حالة من التخاذل الكبير المتوقع من قبل الرئيس الأمريكي جو بايدن، وكبار المسئولين الأمريكيين، مما سيشكك فعليا في الصلاحيات القانونية والسياسية بل والعسكرية التي يتمتع بها الرئيس الأمريكي، وقدرته على استخدامها في ظل حالة الارتباك الكبيرة التي تدب في وزارة الدفاع الأمريكية، وفي ظل اعتماد الدول الغربية بشكل متزايد على واردات الطاقة الروسية، مما دعّم بشكل فعال عملية تسليح خصم استراتيجي مع التذكير أنه كان يتعين على الغرب أن ينفق أكثر على التسليح، وألا يعتمد في هذا الصدد على الولايات المتحدة التي رأت أنْ تولي مسألة احتواء الصين في منطقة المحيط الهادئ اهتمامها في الوقت الراهن.
في سياق آخر فإن محاولات القوي الغربية عزْل روسيا قد تفضي إلى مزيد من التعاون الاقتصادي بينها وبين الصين، والذي قد يتسّع لتدشين خط غاز جديد، يمكن أن يعوّض خسارة خط نورد ستريم2 الذي كان منوطا بنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا واللافت أن الغرب يدعم أوكرانيا في مواجهة روسيا، كما أن الغرب يدعم تايوان في مواجهة الصين، وستراقب الصين عن قرب كيف سيتعامل الغرب مع العدوان الروسي على أوكرانيا بصرف النظر عن إعلان الدول الغربية دعم مطلب أوكرانيا بدخول الاتحاد الأوروبي.
ثانيا: أن روسيا المدعومة بأسعار النفط المرتفعة أكثر استعدادا لمواجهة حلف الناتو حاليا بصورة أقوى من قبل بضع سنوات بعد أن قامت بتحديث قوتها المدرعة، والتي تظهر الآن في مسرح عمليات أوكرانيا، كما أن الحلفاء الغربيين استبعدوا إرسال قوات قتالية إلى أوكرانيا لأنها ليست في حلف الناتو، وبدلاً من ذلك، أرسلوا أسلحة مثل أنظمة الصواريخ المضادة للدبابات والأسلحة البسيطة مع تعزيز تواجدها في مناطق إستراتيجية في دول شرق أوروبا للتحالف وسط مخاوف من احتمال تعرض دول البلطيق ودول أخرى لتهديد من روسيا. وقد وافق الناتو على تعزيز قواته البرية والبحرية والجوية بالإضافة إلى زيادة جاهزية القوات في أماكن أخرى، وإلى البلدان الأقرب إلى مناطق المواجهة استونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا، حيث طلبت إجراء مشاورات بموجب المادة 4 من المعاهدة التأسيسية للناتو.
ثالثا: جاء رد الرئيس الأمريكي جو بايدن على الاتهامات الموجهة لواشنطن بالتخاذل في مواجهة روسيا عقب غزو قواتها أوكرانيا.وأكد الرئيس بايدن، أنه لم يكن أمام بلاده بديل عن العقوبات ضد روسيا، سوى حرب عالمية ثالثة ، ومن ثم فإن هناك عدّة سيناريوهات محتملة قد تكون مخرجا لهذه المواجهة الراهنة والمستمرة، أوّلها البدء في التفاوض الذي بدأ بالفعل، والبحث عن حل توافقي. لكن سقف المطالب وعتبة التنازلات في أي مفاوضات تقاس بما يجري عسكريا، فمن له القدرة على تحقيق انجازات أولا أكثر يكون له القدرة، والغلبة في المواجهة وفرض خياراته على الجانب الآخر مع ملاحظة أن العقوبات على روسيا لا تفي بالغرض المخطط له فعليا، كما أن التقدم العسكري الروسي ليس بالسهولة التي كانت مقدرة، وتزويد أوكرانيا بأسلحة مضادة للدّبابات والطائرات، يوحي برغبة دول حلف ناتو استنزاف الجيش الروسي أما السيناريو الآخر فهو استمرار العمليات العسكرية ، وإعلان الرئيس بوتين أنها حققت أهدافها مع الاحتفاظ بالإقليمين الانفصاليين تحت إدارة روسيا،. أمّا السيناريو الثالث احتمال نشوب حرب مباشرة بين دول الناتو وروسيا فهو أمر مستبعد فالدول الغربية غير راغبة في العمل على هذا السيناريو لأن معناه الدخول في مواجهة شاملة.
الرابع: أن الهزيمة التي لحقت بأوكرانيا، هي في الحقيقة هزيمة كبرى للولايات المتحدة، وهزيمة كبرى لحلف الناتو، ومؤشر قوي على هشاشته، وانهيار قوة الردع التي يدعيها دائما حيث من غير المرجح أن يكون الهدف من هذه العملية العسكرية الموسعة مجرد الضغط على واشنطن وأوروبا لتنفيذ الطلبات التي سبق، وتم تعليق الحديث بشأنها، وإنما تستهدف موسكو فرض واقع جديد على الأرض ثم التفاوض في وقت لاحق خاصة وأن روسيا لا تريد أن تتخلّى عن مشاركتها كعضو أساسي ومركزي في النظام الدولي، لكن موسكو ترغب بأن يكون هذا النظام قائما على الندية، وعلى الاحترام المشترك، وأن يكون مبدأ الأمن مشترك وليس مُجتزءًا، بشكل أن لا تقوم جهة أو حلف معيّن بإجراءات لضمان أمنها وتفوقها على حساب الدول أو المحاور الأخرى.
والخلاصة أن الفجوة بين الأهداف، والاستجابة الأمريكية للأزمة الأوكرانية، تعكس ارتباكا استراتيجياً لإدارة بايدن، فالأخيرة لم تنجح بصورة لافتة في تحقيق أهدافها، خاصة المرتبطة بدعم أوكرانيا سياسياً وعسكرياً ودعم حلف الناتو الذي بات يدافع عن أمنه بالأساس في ظل ما يجري أمريكا. كما أن الدعم العسكري الذي قدمته وستقدمه واشنطن لأوكرانيا، لن يؤثر على توازن القوة بين الأخيرة وروسيا، فبالرغم من تقدم قدرات الجيش الأوكراني، فإنها تظل محدودة في مواجهة القوات الروسية، والتي ما تزال تتخير الفرص للتعامل والحسم لتبقي كل السيناريوهات قائمة في إطار لعبة المقايضات الكبرى بين الأقطاب الكبرى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة