روسيا والغرب يلعبان "الغميضة".. حشد "خفي" أم انسحاب "وهمي"؟
روايات متضاربة حول الأزمة الأوكرانية، فبينما تنشر روسيا مقاطع مصورة حول عمليات انسحاب لقواتها، تتحدث كييف والدول الغربية عن حشد ومخاوف، في لعبة أشبه بـ"الغميضة" في البحث والاختفاء.
فقد قالت أوكرانيا، الجمعة، إن عدد القوات الروسية على الحدود يصل إلى 149 ألف جندي، فيما رجح السفير الأمريكي لدى منظمة الأمن والتعاون في أوروبا رفع روسيا لحشد قواتها على حدود أوكرانيا أو بالقرب منها من 169 إلى 190 ألف جندي.
وهو ما عززته صور أقمار صناعية وتقارير غربية رغم إعلان روسيا انسحاب عشرات القاذفات والطائرات والعديد من الجنود من شبه جزيرة القرم والحدود والعودة لثكناتهم بعد انتهاء التدريبات.
وبالتوازي، حذرت تقارير غربية من أن روسيا قد تكون تمارس الخداع بأنباء سحب قواتها في ظل توترات تتفاقم شرقي أوكرانيا قد تتخذها موسكو ذريعة للغزو.
ونقلت صحيفة "التليجراف" البريطانية عن وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، قوله، إنه في الوقت الذي تقول فيه روسيا إنها سحبت المزيد من القوات، التي تتمركز على الحدود مع أوكرانيا، لا يوجد ما يؤكد ذلك على أرض الواقع.
وأضاف: "هناك اختلاف كبير بين ما تقوله روسيا، وما تفعله، أما ما يحدث الآن فهو شيء لا يمكن أن يعني انسحابا".
وتابع: "على العكس تماما، نحن نرى بشكل مستمر تحركات متزايدة، وحشدا متواصلا، للقوات التي يمكن أن تكون أساسا لأي هجوم على الأراضي الأوكرانية".
بدوره، قال ينس ستولتنبيرج، الأمين العام لحلف شمال الأطلسي "الناتو"، إن السلوك المعتاد مؤخرا بالنسبة لروسيا هو "التهديد بالغزو، لتحدي المبادئ الأساسية، للأمن الأوروبي.
ونقلت الصحيفة عن مصدر استخباراتي غربي، لم تسمه، أنه "لا توجد أي أدلة حتى اللحظة، تدعم فكرة أن التصعيد العسكري سيتوقف بأي شكل من الأشكال".
كما نقلت عن مايكل كوفمان، خبير الشؤون الروسية في مركز الدراسات البحرية الأمريكي، قوله إن موسكو يمكن أن تكون قد نقلت قوات شكلية، بعيدا عن الحدود للفت الانتباه فقط، بغرض الترويح لانطباع أنها توقف التصعيد العسكري.
وأضاف: "الغالب أننا سنرى عمليات نقل لقوات بشكل رمزي، قرب الحدود الأوكرانية دون التأثير على النسق العام للقوات، أو تغيير للصورة العامة لانتشار الجنود".
توترات تتفاقم
توترات تتفاقم
وتشهد منطقة شرق أوكرانيا تراشقا بين كييف والانفصاليين الموالين لروسيا بعد هجمات بالمدفعية والقذائف خلال الساعات الماضية.
وتسود مخاوف دولية من أن تتخذ موسكو التوترات بين كييف وانفصاليين موالين لها ذريعة للإقدام على السيناريو الأسوأ وغزو أوكرانيا.
وبينما قالت سلطات "منطقة لوغانسك" إن الوضع في خط التماس يتأزم وأوكرانيا تواصل التحضير لشن هجوم على دونباس، وصف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الأمر بأنه "استفزاز كبير".
وقال الجيش الأوكراني، الجمعة، إنه رصد 60 انتهاكا لوقف إطلاق النار ارتكبها انفصاليون موالون لروسيا على مدى الساعات الأربع والعشرين الماضية.
وذكر الجيش في تقرير أن الانفصاليين فتحوا النار على أكثر من عشرة تجمعات سكنية مستخدمين المدفعية الثقيلة وقذائف الهاون ودبابة.
في المقابل، اتهم الانفصاليون القوات الحكومية في كييف بتكثيف القصف عبر المدفعية وقذائف مورترفي في ثلاث وقائع اليوم الجمعة.
وقال الكرملين أمس الخميس إنه "يشعر بقلق شديد" حيال التصعيد في أوكرانيا ويراقب الوضع عن كثب. فيما قالت الولايات المتحدة إن روسيا تبحث عن ذريعة للحرب.
وأفاد تقرير إنترفاكس بأن جمهورية دونيتسك الشعبية المعلنة من طرف واحد قالت إن القصف استهدف قرية بتريفسكي في المنطقة الانفصالية في الخامسة والنصف صباحا بالتوقيت المحلي (0330 بتوقيت جرينتش).
وأعلنت جمهورية متمردة معلنة من جانب واحد أخرى، وهي لوغانسك، عن واقعتي إطلاق قذائف مورتر صباح اليوم.
كييف والانفصاليون الموالون لروسيا في حرب منذ ثماني سنوات، وعادة ما يتم انتهاك وقف إطلاق النار المتفق عليه من الجانبين، لكن حدة القتال زادت بشكل ملحوظ هذا الأسبوع.
وصوت مجلس النواب الروسي هذا الأسبوع لصالح مطالبة الرئيس فلاديمير بوتين بالاعتراف باستقلال المنطقتين الانفصاليتين المدعومتين من روسيا في شرق أوكرانيا، بينما طلب الاتحاد الأوروبي من موسكو عدم المضي في ذلك.
تناقض الروايات
والخميس، قالت شركة أمريكية خاصة إن صور الأقمار الصناعية تظهر أن روسيا سحبت عتادا عسكريا من مناطق قرب أوكرانيا، لكن عتادا آخر وصل إلى هناك وأن موسكو لا تزال لديها الكثير من القوات والعتاد بالقرب من جارتها السوفيتية السابقة.
كما نبهت دول غربية، الأربعاء، إلى تنامي الوجود العسكري الروسي على الحدود الأوكرانية، فيما يتعارض مع إصرار موسكو على انسحاب جزئي.
وأعلن البيت الأبيض أن موسكو لم تسحب قوات عن الحدود مع أوكرانيا بل أرسلت تعزيزات من سبعة آلاف عسكري، ما يزيد المخاوف من اجتياح روسي لهذا البلد.
وصرح مسؤول كبير في البيت الأبيض طلب عدم كشف اسمه مساء الأربعاء: "أعلن الروس أنهم يسحبون قوات عن الحدود مع أوكرانيا (...) نعرف الآن أن هذا غير صحيح".
وضم الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي صوته إلى الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، مؤكدا أنه لم يلاحظ بوادر تراجع في الحشد العسكري الروسي على حدود بلاده بل مجرّد "عمليات تبديل صغيرة" لوحدات.
ويحذر الغرب منذ أسابيع من مخاطر غزو روسي وشيك لأوكرانيا بعدما حشدت موسكو أكثر من مئة ألف جندي عند الحدود الأوكرانية وأجرت تدريبات عسكرية عدة، في وضع متفجر وسط أسوأ أزمة بين الغرب وموسكو منذ انتهاء الحرب الباردة رغم نفي متكرر من روسيا.
وبالرغم من تكثيف التحركات الدبلوماسية، حذر الأمريكيون والغربيون من أن عقوبات اقتصادية واسعة جاهزة في حال أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا، وهو ما تقول موسكو إنها لا تخطط له.
وأعلن الجيش الروسي، الأربعاء، انتهاء تدريبات ومغادرة عسكريين روس شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا من أوكرانيا عام 2014، ونشر مقطع فيديو قال إنه يظهر عربات محملة بمعدات عسكرية تغادر المنطقة ليلا.
كما وعدت بيلاروسيا الأربعاء بأن جميع العسكريين الروس المنتشرين على أراضيها في إطار مناورات سيغادرون البلاد في الموعد المقرر لانتهاء التدريبات في 20 فبراير/شباط.
مناورة روسية
في وقت كانت فيه أنظار العالم تتجه نحو شرق أوروبا، وتحديدا إلى أوكرانيا، ويستعد لأسوأ السيناريوهات، تفاجأ الرأي العام الدولي بإعلان انسحاب روسي جزئي من حدود أوكرانيا، في مؤشر قد يأخذه البعض على أنه بداية وقف للتصعيد.
ولكن يرى خبراء أن الأمر يتجاوز ما يوحي به ظاهره، فإنهم يتفقون عند جزئية هامة ضمن دلالات الانسحاب، تتضح بشكل أساسي من التوقيت الذي يأتي عشية "الموعد" المفترض للغزو الروسي، في رسالة أراد من خلالها الرئيس فلاديمير بوتين دحض جميع السيناريوهات والتكهنات المتداولة.
فالإعلان من شأنه أن يضرب أكثر من عصفور بالنسبة لموسكو، أولها تأكيد عدم وجود أي نية من جانبها لاجتياح كييف، وثانيا تفنيد التوقعات الغربية، وخصوصا الأمريكية" التي تنتظر حربا "في أي لحظة"، وفق تصريحات سابقة لمسؤولين أمريكيين.
ثانيها أن في الانسحاب الجزئي رسالة باستمرار "الخطر"، حيث قد تعمل موسكو على اللعب بورقة الضغط الضمني من أجل تحقيق اختراق بملف الضمانات الأمنية، وهذا ما يفسره التراجع التكتيكي الجزئي بانتظار رد "أفضل" من جانب واشنطن والناتو على مقترحات موسكو.
غير أن التصريحات الأمريكية بأن هناك تبديلا للقوات وليس انسحابا تشي بأن الانسحاب الجزئي قد لا يكون سوى مناورة من روسيا لإخراج نفسها من دائرة الاتهامات والتلويح بالعقوبات من جهة، وللاستمرار في ضغطها على الغرب بملف الضمانات الأمنية من جهة أخرى.
طرح يؤكده الغضب الروسي المستمر من "تجاهل" واشنطن والناتو البنود الرئيسية للضمانات الأمنية التي تطالب بها، وهو الملف الذي تعمل عليه موسكو بكامل قوتها في محاولة لتحقيق أقصى الاستفادة من القلق الغربي من الغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا.
غضب ظهر جليا في تصريحات المسؤولين الروس بينهم وزير الخارجية سيرجي لافروف والذي تطرق للأمر في مكالمة هاتفية جمعته قبل أيام بنظيره الأمريكي أنتوني بلينكن.
وحينها، نقلت الخارجية الروسية عن لافروف، تأكيده على أن "الحملة الدعائية عن العدوان الروسي" ضد أوكرانيا والتي شنتها الولايات المتحدة وحلفاؤها لها غايات استفزازية، وتحرض حكومة كييف على تخريب اتفاقات مينسك واللجوء إلى محاولات ضارة لتطبيق حل عسكري لقضية "دونباس".
ورغم صعوبة التكهن عما إن كان القرار الروسي تراجعا أم مناورة، لكن المؤكد هو أن ما يجري حاليا يستنسخ مشهدا مماثلا جرى قبل ذلك، حين عززت روسيا، ربيع العام الماضي، قواتها على الحدود الأوكرانية وسط توقعات بأن الهدف من ذلك هو جني فوائد دبلوماسية.
لكن روسيا أعادت سحب تعزيزاتها بعد وقت قصير من إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن ونظيره الروسي فلاديمير بوتين عقد قمة بينهما، وآنذاك، توقع خبراء أن يعود بوتين للحيلة نفسها كلما أراد تحقيق مكاسب، وهو ما يحصل الآن بخصوص الضمانات الأمنية التي تطلبها موسكو.
محللون آخرون يذهبون إلى أبعد من ذلك بالقول إن الأمر يبدو مختلفا هذه المرة، وإن الغضب الروسي بدأ حين استخدمت كييف طائرات مسيرة صنعت في تركيا، العضو في "الناتو"، قبل أن تمنح تطورات الأحداث موسكو الفرصة للذهاب لأبعد من "تأديب" أوكرانيا واستثمار المخاوف الغربية في ملف لضمانات الأمنية.
ويتهم بوتين الغرب بتجاهل “الخطوط الحمراء” لروسيا من خلال إجراء تدريبات في البحر الأسود وإرسال أسلحة حديثة لكييف، مطالبا “بضمانات قانونية” من حلف "الناتو" بعدم التوسع شرقا.
ومع أن مراقبين يستبعدون أن تجتاح روسيا أوكرانيا متسائلين عما ستكسبه من ذلك، لكن التاريخ القريب يؤكد أن موسكو لا تعتمد دائما مبدأ المناورة أو الضغط فقط، وإنما قد تتطور عملياتها العسكرية بشكل يصل حدا أكبر من التوقعات.
ففي عام 2008، قصفت روسيا أهدافا في جورجيا بعدما أرسل رئيسها آنذاك ميخائيل ساكاشفيلي قوات لمحاربة الانفصاليين، وفي نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي الماضي، قارن جهاز الاستخبارات الروسية الوضع الحالي في أوكرانيا بالوضع في جورجيا في ذلك العام، ودعا رئيسها إلى عدم ارتكاب الخطأ نفسه الذي ارتكبه ساكاشفيلي، مذكرا إياه بأن “ذلك كلفه غاليا”.