"داعش في الكونغو".. الإرهاب في الجبهات الهشة
تعد حالة "ولاية وسط أفريقيا" تكراراً لظاهرة مهمة تتعلق بنشاط التنظيمات الإرهابية العالمية في أفريقيا.
شهدت جمهورية الكونغو الديمقراطية 16 أبريل/نيسان 2018 هجوماً أودى بأرواح 8 عسكريين وجرح آخرين وقع في بلدة كامانجو Kamango في إقليم شمال كيفو القريب من الحدود الكونغولية الأوغندية. كما شهد اليوم ذاته هجوماً آخر على قاعدة عسكرية في بلدة بوفاتا Bovata الواقعة على بعد 5 كيلومترات من كامانجو حيث وقعت اشتباكات بالأسلحة الصغيرة والمتوسطة، وأسفرت عن مقتل 3 جنود كونغوليين وجرح 5 آخرين.
وقد أعقب الحادث بيومين إعلان تنظيم داعش مسؤوليته عن الهجوم في سابقة تضمنت إشارة أولى من جانب التنظيم الإرهابي العالمي لــ"ولاية وسط أفريقيا" كمنطقة "جديدة" للوجود والنشاط.
وتعد حالة "ولاية وسط أفريقيا" تكراراً لظاهرة مهمة تتعلق بنشاط التنظيمات الإرهابية العالمية في أفريقيا، والتي لا تقوم على استحداث وحدات تابعة "أصلية" من المتبنين لتوجهات هذه التنظيمات، بقدر ما تعتمد على تنظيمات مسلحة متشكلة وناشطة بالفعل تقوم بمبايعة التنظيم العالمي وتنسب نفسها إليه مقابل تلقيها دعم مالي وبشري. وتكررت هذه الظاهرة في أكثر من حالة أفريقية تمتد من الصومال شرقاً وحتى مالي غرباً.
وفي الكونغو، سبق للقوى الديمقراطية المتحدة Allied Democratic Forces (ADF) أن انخرطت لنحو 25 عاماً في العمل المسلح المستمر قبل يُعترف بها فرعاً لداعش في وسط أفريقيا. فالتنظيم المؤسس في أوغندا والذي انخرط بقوة في الصراع الدائر في منطقة البحيرات العظمى منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، سبق له أن غير توجهاته الفكرية من تنظيم انفصالي متمرد، إلى تنظيم ديني مرتبط بنشاط تنظيم القاعدة في شرق أفريقيا، وأخيراً إلى فرع مستقل من فروع داعش في منطقة لم يسبق للتنظيم الدولي الوجود فيها.
على هذا، جاء تحول القوى الديمقراطية المتحدة إلى ولاية وسط أفريقيا نتيجة مسيرة طويلة قطعها التنظيم عبر تحولات فكرية متتالية نحو التوجهات الأكثر تطرفاً، وعبر تحولات حركية تضمنت تغيير الأهداف من العسكريين الأوغنديين والكونغوليين إلى المدنيين في منطقة شمال شرق الكونغو، وتغيير مصدر الدعم المالي من الاعتماد على الاقتصاد المحلي في مناطق التمركز، إلى تلقي الدعم من داعش عبر شبكات دولية لتحويل الأموال.
نشأة القوى الديمقراطية المتحدة
في عام 1991 قام نحو 1000 من المسلحين الأوغنديين بالإغارة على مقر المجلس الأعلى الإسلامي الأوغندي بسبب الاختلاف بشأن التوجهات الدينية، وقد أعقب الواقعة اعتقال نحو 400 من بينهم جميل مكولو قبل إطلاق سراحه عام 1993 ليؤسس مؤسسة السلف Saalaf Foundation بجناحها المسلح تحت اسم مقاتلي الحرية المسلمين الأوغنديين Uganda Muslim Freedom Fighters. وفي عام 1995 تأسست القوى الديمقراطية المتحدة بقيادة جميل موكولو الذي تلقى التدريب العسكري في معسكرات التنظيمات المتطرفة في أفغانستان وباكستان، والذي تمتع بشبكة علاقات دولية قوية مع التنظيمات المتطرفة والدول الداعمة لها، مما وفر له موارد مالية كافية، إذ سبق لموكولو الالتقاء بمؤسس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن أثناء وجودهما في السودان في مطلع التسعينيات.
وبجانب المقاتلين التابعين لموكولو انضم للتنظيم الجديد شركاء آخرون جمعهم السعي للإطاحة بالرئيس الأوغندي يوري موسيفيني عبر المواجهة المسلحة في مناطق أقصى الغرب الأوغندي، وسرعان ما انضم عدد من مقاتلي جماعة باكانجو الإثنية والذين انشقوا عن الحركة الانفصالية لمملكة روينزورورو بعدما أعادوا تسمية نفسهم باسم الجيش الوطني لتحرير أوغندا National Army for the Liberation of Uganda (NALU)، فضلاً عن المقاتلين المسلمين من أبناء جماعة باجاندا الذين نظموا أنفسهم في إطار الجيش المسلم لتحرير أوغندا Uganda Muslim Liberation Army (UMLA)، كما ضم التحالف الناشئ عدداً من العناصر المسلحة من الأعضاء السابقين في الفرع الأوغندي من جماعة التبليغ.
ومع احتدام المواجهات مع الجيش الأوغندي منذ نهاية التسعينيات، شهدت القوى الديمقراطية المتحدة ADF مظهرين بارزين للتحول كان أولهما التراجع الحاد في أعداد المقاتلين والذين اقتصروا بعد هذه المواجهات على بضعة مئات بعدما بلغوا في السابق بضعة آلاف.
أما التحول الثاني فكان اضطرار من تبقى من مقاتلي التنظيم لعبور الحدود والاستقرار في الجانب الكونغولي منها في إقليم شمال كيفو، مستغلين علاقات القرابة والأصل المشترك ليسيطر التنظيم على المنطقة الحدودية بين أوغندا والكونغو بصورة شبه كاملة، وما ساعد كذلك على استقرار التنظيم في الكونغو عجز الحكومات المتعاقبة في كينشاسا عن خوض مواجهة مفتوحة مع التنظيم، وتوظيف التنظيم كورقة للضغط في يد الحكومات الكونغولية المتعاقبة لمواجهة المساعي الأوغندية المتكررة للتدخل في الصراع المسلح في الكونغو.
التحولات الفكرية والتقارب المطرد مع داعش
شهدت الجوانب الفكرية للقوى الديمقراطية المتحدة بدورها تحولات موازية، كان من مسبباتها الرئيسية اختلال التوازن الداخلي بين مكونات التنظيم، فقد تمتع التنظيم بالكثير من المرونة الفكرية بسبب نشأته كاتحاد بين عناصر جهادية ومقاتلين قبليين، الأمر الذي سمح للتنظيم بتغيير عقيدته من الارتكاز على الجانب الإثني إلى الارتكاز على البعد الديني كلما اقتضت الضرورة.
وعلى الرغم من وضوح البعد الديني في خطاب التنظيم وممارساته منذ النشأة، إلا أن الفترة التالية على الاستقرار في معسكرات داخل الكونغو شهدت ترسيخاً غير مسبوق لهذا البعد، ولم تعكس هذه التحولات تغيراً فكرياً خاضه أعضاء التنظيم بقدر ما عكست تغيراً اضطرارياً في شبكة العلاقات الخارجية، بعد تقارب مطرد مع شبكات التنظيمات الإرهابية في ساحل أفريقيا الشرقي على وجه الخصوص، ومما زاد من تبني التنظيم توجهات أكثر تطرفاً خسارته منذ عام 2007 لتحالفه مع الجيش الوطني لتحرير أوغندا الشريك "غير الديني"، والذي فضل في ذلك العام قبول التسوية السياسية مع الحكومة الأوغندية، الأمر الذي اضطر بقايا التنظيم للعودة لأصوله الدينية وتبني توجهات أكثر تشدداً.
وقد اكتسبت التوجهات المتطرفة المتنامية للقوى الديمقراطية المتحدة شكلاً أكثر تحديداً في السنوات الأخيرة؛ إذ سعى التنظيم للتقرب من عدد من التنظيمات الإسلامية الأخرى الناشطة في شرق أفريقيا، كما سعى للتقرب من داعش بصورة واضحة؛ ففي عام 2012 غيّر التنظيم اسمه إلى اسم جديد هو "مدينة التوحيد والموحدين"، كما جاءت المواجهات المتصاعدة مع الحكومة الكونغولية خاصة منذ عملية الجيش الكونغولي (سوكولا 1) في مارس من عام 2014 لتزيد من تطرف القوى الديمقراطية المتحدة، خاصة بعد إلقاء القبض على مؤسس التنظيم وقائده جميل موكولو في تنزانيا في أبريل من عام 2015، ليخلفه موسى بالوكو والذي تبنى توجهاً واضحاً بالمزيد من التطرف فكراً وممارسة من أجل تأكيد سيطرته على الجماعة التي أخذت خسائرها في التزايد من جراء المواجهات المستمرة مع الجيش الكونغولي.
وقد قام التنظيم بخطوة كبيرة للتقرب من داعش في أكتوبر/تشرين الأول 2017 بإصداره مقطعاً مصوراً لجنود يتدربون بالملابس العسكرية المموهة في إحدى الغابات الاستوائية الأفريقية، كما كشف المقطع للمرة الأولى عن راية التنظيم وهي نسخة معدلة من راية داعش، بعدما أضيف إليها بندقية من طراز Ak-47 والاسم الجديد للتنظيم بالأحرف اللاتينية والعربية، كذلك شهد المقطع أول إشارة لمصطلح "الدولة الإسلامية في وسط أفريقيا"، قبل أن يتبنى تنظيم داعش الاسم نفسه في أعقاب الحادث الأخير.
ومنذ ذلك الوقت أصبحت الكونغو أحد المقاصد المهمة لعمليات تجنيد "مجاهدين" جرت في دول بشرق أفريقيا على رأسها كينيا، وذلك وفقاً لاعترافات عدد من المقاتلين الساعين للانضمام من الذين ألقت السلطات الكينية القبض عليهم، الأمر الذي يشير لوجود ترتيبات إقليمية تتجاوز حدود الكونغو وتضم كينيا وتنزانيا من بين دول أخرى في الإقليم.
هذه الحقائق الواردة من كينيا أكدها مدير منظمة الأمن الداخلي الأوغندي الكولونيل كاكا باجيندا في مايو 2018 حينى، حيث أعلن حيازته أدلة مباشرة على تعاون وثيق بين داعش والقوى الديمقراطية المتحدة.
وجاءت أكثر المعلومات تفصيلاً بشأن العلاقة بين التنظيم النشط في شمال الكونغو وداعش في أعقاب القبض على شخصين مسؤولين عن تقديم تسهيلات مالية لداعش في كينيا وهما: وليد أحمد زين وحليمة أدان علي واللذين ألقي القبض عليهما في يوليو/تموز2018 بعد تأسيس شبكة لتيسير نقل الأموال لصالح داعش تشمل أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط والأمريكتين.
وخلال الفترة بين بدايات عام 2017 وحتى إلقاء القبض عليه في يونيو/تموز 2018 قام وليد زين بنقل أكثر من 150 ألف دولار أمريكي عبر هذه الشبكة، الأمر الذي جعله عرضة لعقوبات من وزارة الخزانة الأمريكية بحيث تضمن اتهامه تأسيس شبكة تمويل دولية لتيسير تمويل عمليات داعش في عدد من المواقع حول العالم من بينها وسط أفريقيا في إشارة للكونغو، وأشارت بعض المصادر نقلاً عن أحد المنشقين عن ADF إلى تأكيد التواصل بين وليد والتنظيم وحصول التنظيم على تمويل عبر هذه الشبكة.
منحنى العمليات المتصاعد
كان للتقارب المتزايد بين القوى الديمقراطية المتحدة وداعش أثراً واضحاً على عملياتها كماً ونوعاً؛ فمنذ أن استقر التنظيم في إقليم شمال كيفو في نهاية التسعينيات اتسمت عملياته بقدر كبير من التذبذب خاصة في الفترة التي كانت لا تزال جبهة القتال الأصلية في غرب أوغندا تشهد اشتباكات متكررة، وبمرور الوقت دخل التنظيم في فترة هدوء نسبي امتدت منذ عام 2000 وحتى بدايات 2013 شهدت تراجعاً ملحوظاً في نشاط التنظيم في الكونغو، كما شهدت توقفاً لعمليات التنظيم في أوغندا بسبب الانتصارات التي أحرزها الجيش الأوغندي والتي اضطرت التنظيم لقبول الدخول في مفاوضات سلام مع الحكومة الأوغندية استضافاتها العاصمة الكينية نيروبي في مايو/أيار عام 2008 لم يكتب لها النجاح الكامل.
وقد شهد نشاط التنظيم تحولاً مهماً منذ 2013 حين أصبح أكثر استهدافاً للمدنيين بعدما كانت أهدافه الأساسية هي قوات الجيش الكونغولي وقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وذلك بعدما عكس خطاب التنظيم طابعاً عدائياً متنامياً تجاه المجتمعات الحاضنة له في شمال كيفو، وقد بلغت حصيلة تصاعد نشاط الحركة في تلك الفترة نحو ألف قتيل سقطوا بين عامي 2014 و2016 في عدد من الحوادث التي تركزت في مدينة بين ومحيطها.
وبعد أن تلقى التنظيم ضربات أمنية قوية أسفرت عن تراجع نشاطه مؤقتاً منذ نهاية عام 2016 وحتى نهاية العام التالي، شهد عام 2018 موجة جديدة من تصاعد النشاط بعد أن أصبح التنظيم أكثر ارتباطاً بداعش سواء من الناحية الفكرية أو التنظيمية أو الحركية، حيث اعتبرت القوى الديمقراطية المتحدة مسؤولة عن مقتل نحو 250 شخصاً في عام 2018 وحده سواء من خلال العنف المباشر أو من خلال العمليات المتكررة التي تستهدف تعطيل عمل المنظمات الإغاثية الدولية التي تسعى لاحتواء وباء إيبولا المتفشي في الإقليم.
كما بلغت عمليات التنظيم مستوى أعلى من الخطورة حين أعلنت الخارجية الأمريكية في نوفمبر من عام 2018 إغلاق السفارة الأمريكية في العاصمة الكونغولية كينشاسا بسبب وجود تهديدات إرهابية، وعلى الرغم من عدم تحديد طبيعة التهديد في البيان الرسمي، رجحت وكالة رويترز نقلاً عن مصادر دبلوماسية أن الأمر جاء في أعقاب إلقاء القبض على خلية من أعضاء القوى الديمقراطية المتحدة في تنزانيا والمتصلة بالجماعة الإرهابية الأوغندية الأصل.
آفاق المستقبل
على الرغم من الخطر الكبير الذي يحمله ظهور تنظيم تابع لداعش في وسط أفريقيا، يظهر العديد من العوامل لتأكيد إمكانية احتواء هذا التهديد في المستقبل. فلم يأت ارتباط القوى الديمقراطية المتحدة بداعش إلا نتيجة الضعف الكبير الذي اعترى التنظيم سواء باعتقال مؤسسه أو بخسارته أعدادا كبيرة من المقاتلين على الجبهتين الأوغندية والكونغولية.
كذلك لم يعد السياق الإقليمي مساعداً على تنامي مثل هذه التنظيمات، فالمتغيرات الداخلية في الكونغو والمتغيرات الإقليمية في كل دول إقليم البحيرات العظمى وشرق أفريقيا أفقدت التنظيم الدعم الذي كان يتلقاه من حكومات عدة، بل أصبح التنظيم هدفاً لمواجهات متزامنة تقوم بها القوات الكونغولية والأوغندية، مع دعم استخباراتي من كينيا وتنزانيا.
وعلى المستوى الدولي، يمكن لحكومة الكونغو أن تستفيد من الدعم الدولي في مكافحة الإرهاب بعد الزيارة الناجحة للرئيس الكونغولي المنتخب حديثاً فيلكس تشيسيكيدي للولايات المتحدة التي أكد فيها التزام بلاده بمكافحة الإرهاب، مطالباً بشراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة تتضمن إمداد بلاده بالمساعدات العسكرية اللازمة لدحر الإرهاب.
لكن على الجانب الآخر، يظهر التحدي الكبير المتعلق بتنامي العلاقات البينية التي تربط التنظيمات الإرهابية في مختلف مناطق القارة الأفريقية، فمنذ عام 2014 ظهرت العديد من الشواهد على قيام علاقات وثيقة بين القوى الديمقراطية المتحدة وبين التنظيمات الإرهابية الناشطة في أفريقيا جنوب الصحراء كجماعة الشباب الصومالية وتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي وبوكو حرام، وينذر هذا الوضع بصعوبة متزايدة لمواجهة الإرهاب في أفريقيا، في ظل عمليات تبادل الدعم بين تنظيماته المختلفة، كما يهدد بانتشار موجة الإرهاب لمناطق جديدة.
ختاما، فإن هناك خطورة حقيقية في اكتساب الإرهاب مواطئ أقدام جديدة في القارة الأفريقية، خاصة من خلال استغلال الصراعات المزمنة التي يعاني منها الكثير من دول القارة، لكن في المقابل تبدو استجابة الحكومات الأفريقية والداعمين الدوليين لها أكثر حسماً في مواجهة الإرهاب مما يفتح الباب أمام تفاؤل حذر بتجنب تحول "ولاية وسط أفريقيا" إلى معقل جديد للإرهاب في أفريقيا.
aXA6IDE4LjExOS4xMzcuMTc1IA== جزيرة ام اند امز