الفن في هذه الحالة واقع تحت نظرية الاستغلال أو الاستدعاء الخاطئ للتدليل على معتقدات أشخاص اكتسبوها تحت مبدأ الاستسهال
أتابع دائما مواقع التواصل الاجتماعي متنقلا بين التقسيمات الجغرافية التي تعطينا تحديدا دقيقا لتعريف الجمهور "باعتباره الشريحة من المواطنين التي تنتمي إلى ثقافة وبيئة وعرف يعتبرون الصفة الحاكمة له حتى لو تخطى ذلك حدود الدولة الواحدة"، فمثلا الجمهور المغاربي ممكن يشمل المواطنين في "تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا" وهكذا.
رصد الجمهور بهذا التعريف يعطينا دائما قياسا شبه دقيق لطرائق التفكير ومستويات الوعي، وأعترف أنني متابع جيد للجمهور العربي على مواقع التواصل الاجتماعي، وأشارك بحذر شديد.
منذ بداية فيروس كورونا ركزت غاية المتابعة حول تفسيرات بعض شرائح الجمهور لأسباب انتشار الفيروس، والبعض ذهب بعيدا وراح يتحدث عن نظرية المؤامرة.
وهذا يشكف لنا خفايا خطيرة في العقلية العربية تحتاج من يشتغل عليها من أهل الفكر وعلم النفس والاجتماع، وهي الإحساس بالدونية، والإحساس بأننا خارج ترتيبات الزمن والعالم.
الفن في هذه الحالة واقع تحت نظرية الاستغلال أو الاستدعاء الخاطئ للتدليل على معتقدات أشخاص اكتسبوها تحت مبدأ الاستسهال، وهذا يحتاج إلى تشريح دقيق لهذا الاستدعاء مع انتشار فيروس كورونا
هناك من يقرر ويقسم الأدوار في العالم ونحن كعرب خارج هذه التقسيمة، نحن دائما في موقع المتلقي لا الفاعل.
ربما هذا هو التفكير الكامن خلف أنصار نظرية المؤامرة، فأنصار هذه النظرية يقولون إن انتشار فيروس كورونا هو صراع بين الكبار "الصين وأمريكا".
وبقية الشعوب ضحايا أو حقول تجارب أو جزء رئيسي من اللعبة حتى تنطلي على الجميع.
وبالتالي راحوا يتسارعون في استدعاء كل ما يثبت نظريتهم واعتقادهم، ومن هنا يأتي دور الفن خصوصا السينما.
نحن أمام ترتيب دقيق يجب ألا ننساه ونحن نطرح هذا الموضوع، هناك مبدأ اعتقاد ونظرية تم تبنيها من قبل أشخاص، ثم بعد ذلك راحوا يستدعون ما يثبت نظريتهم.
وهذا منهج تفكير خاطئ تماما، لأن من المفروض أن يكون العكس، بمعنى هناك أدلة وبراهين وإثباتات وحجج جعلتنا نتبنى موقفا بعينه.
*
الفن في هذه الحالة واقع تحت نظرية الاستغلال أو الاستدعاء الخاطئ للتدليل على معتقدات أشخاص اكتسبوها تحت مبدأ الاستسهال.
وهذا يحتاج إلى تشريح دقيق لهذا الاستدعاء.
مع انتشار فيروس كورونا على الفور تم استدعاء أحد الأفلام السينمائية التي قدمت عام 2011 بعنوان "كونتيجن".
"كونتيجن" فيلم من إخراج ستيف سويدبيرغ، بطولة مات ديمون ووغوينث بالترو، يدور الفيلم حول فيروس يقتل الناس، وتحاول المراكز الطبية السيطرة عليه لكنها تفشل، والفيلم يشير بصراحة إلى أن السبب في انتشار الفيروس هو الخفافيش.
وهنا أسئلة كثيرة تجعل البعض فعلا يحتار في تفسير هذه الظاهرة، هل حقا السينما والفن ممكن أن يتحولا إلى تجريب أفكار أو اختبار أفكار لسياسيين أشرار؟
يعني هل يستغل السياسيون الفن ومنه السينما لجعل بعض الأفكار غير المقبولة وغير الإنسانية واردة؟
*
ليس هذا الفيلم وفقط، بل هناك أفلام كثيرة تنبأت بأحداث سياسية كبيرة قبل وقوعها على أرض الواقع، وهنا أشير إلى ما تتناوله وسائل التواصل الاجتماعي بكثرة؛ وهو "مسلسل عائلة سيمبسون"، خصوصا تلك الحلقة التي تناولت تولي دونالد ترامب رئاسة أمريكا قبل أن ينجح في الانتخابات الأمريكية.
وهكذا تلك الأفلام السينمائية التي تنبأت بأحداث "الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001"، ففي الجزء الثاني من سلسلة "ترمنيتر" إخراج جيمس كاميرون، هناك مشهد لشاحنة تصطدم في حائط ثم لقطة قريبة لما هو مكتوب على الحائط "احذروا 9/11".
فيلم "داي هارد" قدم عام 1988، وهناك مشهد البطل وهو يقوم بزرع قنبلة، وأثناء تضبيط الوقت تظهر على الشاشة "9/11".
طبعا هذه أفلام قدمت قبل وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول بسنوات طويلة، واصطياد تلك المشاهد الدقيقة منها للتدليل على وقوع أحداث في الواقع موضوع صعب ومرهق، وفي رأيي لو أن هؤلاء الذين جلسوا ساعات وأياما لمشاهدة الأفلام وإخراج مشاهد منها للتدليل على نظرية المؤامرة لو تفرغوا لقراءة كتاب عن علم المستقبل لكان أفضل لهم وأنفع.
*
الحقيقة أننا في العالم العربي ليس لدينا "علم المستقبليات"، ذلك العلم الذي ينجينا من كارثتين؛ الكارثة الأولى وهي التنجيم وقراءة البخت والأبراج وفتح المندل وغالبا تلك الظواهر تنتهي بالشعوذة والدجل.
الكارثة الأخرى هي فكرة المؤامرة باعتبارنا شعوبا مغلوبا على أمرها، وأنها دائما مستسلمة ومقتنعة بأنها واقعة ضمن تركة الآخرين، وهناك من يتحكم في رسم أقدراهم وتقسيمهم واللعب بمقدراتهم.
وما نحن إلا أحجار على رقعة الشطرنج، وهذا عنوان كتاب للمؤلف وليم جاي كار، صدر من مائة عام ويتحدث عن أشياء ممكن أن تحدث بالفعل.
التعامل مع المستقبل علم له أصوله وله رواده وعلماؤه الكبار، وهنا أشير مثلا إلى أحد المفكرين العرب الذين تخصصوا في هذا العلم، وهو العالم القدير المرحوم المهدي المنجرة، الذي توفي 2014، وهو من أكبر المراجع العربية والدولية في القضايا السياسية والدراسات المستقبلية.
علم المستقبليات هو علم يركز على دراسة المحتمل والممكن والمراد في المستقبل، وأحد نماذج هذه الدراسات "السيناريو"؛ ليس المقصود السيناريو السينمائي أو التلفزيوني، بل السير مع الأحداث الدرامية تبعا لاحتمالات حدوثها في سياق مسارات درامية تشكل في النهاية سيناريو.
وهنا مثلا يحضرني ما فعله الاتحاد السوفيتي وأمريكا أثناء الحرب الباردة وتحديدا في الستينيات.
اتبعوا نظام السيناريو وقدم الروس فيلما بعنوان "2017"، يتوقع ما سيكون عليه العالم في هذا العام وقدم الفيلم عام 1960.
وفي عام 1987 قدم الأمريكيون فيلما سينمائيا بعنوان "الرجل المندفع"، أيضا يتوقع ما سيكون عليه عام 2017.
أيا كان الفيلم، لكن كانت النتيجة قريبة جدا إلى حد كبير بما كان عليه عام 2017 ، هذا طبعا لم يأت من فراغ أو أن المخرج "مخاوي/ يعني عليه عفريت"، أو كاتب السيناريو "فتح المندل"، إطلاقا، السيناريو كان نتاج عملية تفكير طويلة قام بها علماء وليس منجمين أو ضاربي الودع.
بمعنى فيلم "العدوة" أو "كونتيجن" الذي قدم عام 2011 لتتحقق أحداثه عام 2020 هو نتاج عملية تفكير من عقول تخصصت في دراسة المستقبليات واتبعت منهج السيناريو في قراءة المستقبل وطرحت فرضية مفادها أن الصينيين إذا لم يتوقفوا عن تناول الخفافيش كوجبات رئيسية سيتحول ذلك إلى فيروس قاتل لأن القاعدة الطبية تقول ذلك.
ومسار الدراما الحياتية أثبت أن الصينيين لم يتوقفوا عن تناول الخفافيش، بل إن ذلك تحول إلى طبقة اجتماعية، بحيث يتناول الخفافيش الطبقة الراقية.
وبالتالي جاء العمل الفني ضمن سياق تفكير مستقبلي ناتج عن عقليات تخصصت في دراسة احتمالات وإمكانات الحدوث المستقبلي، ولم تكن ضربا من الشعوذة ولا استغلالا من قبل أجهزة أو سياسيين أشرار.
نكمل في المقال المقبل...
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة