الكثير من القوى العالمية الفاعلة اليوم كانت تعيش أوضاعاً أسوأ بما، لايُقاس، بالواقع العربي الراهن ولاتمتلك سوى نسبة مئوية ضئيلة
يكاد يُجمع خبراء الاجتماع والاقتصاد والسياسة، على أن عصر ما بعد انتشار فيروس كورونا سيكون مختلفاً بكل المقاييس عما قبله. وها هو وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، وأحد دهاة السياسة في القرن الماضي وأبرز رموز الدولة الأمريكية العميقة يتوقع ذلك.
كيسنجر قال في مقال له في صحيفة "وول ستريد جورنال" إن النظام العالمي الحالي ذهب الى غير رجعة. ودعا قادة العالم وقادة الولايات المتحدة على وجه الخصوص، للعمل معاً لمواجهة هذا الفيروس والاستعداد لدخول مرحلة ما بعده.
إذاً؛ عالم اليوم في طريقه الى تبديل ثوبه وارتداء ثوب جديد بمقاس وألوان آثار فيروس كورونا العميقة، الذي أثبت بالدليل القاطع أن عالمنا عملاق يقف على ساقين من طين، لم تحتملا الاهتزازات الكبرى التي حدثت.
والسؤال هنا: أين سيكون موقع العرب من هذه التغييرات الجوهرية؟ وهل تبطن فرصاً تمّكنهم من دخول ملعب الكبار في عصر ما بعد كورونا، أم سيظلون على مدارج المتفرجين يراقبون ما يجري في الملعب؟ وأين تكمن فرصهم؟
هذه الأسئلة وسواها من المفروض أن تكون دافعاً للبحث عن اجابات عنها، حيث من السذاجة بمكان مشاهدة الانهيارات الكبرى التي يتعرض لها العمالقة، دول وشركات عابرة للقارات والاكتفاء بمراقبة ما يحدث، على الرغم من أن هاجس اللحظة عند الجميع هو الخروج من المأزق الصحي بأقل الخسائر.
أعتقد أن أمام العرب فرصاً قد لا تتكرر في المدى المنظور لدخول الملعب الدولي بجدارة إذا ما أحسنوا قراءة وقائع لحظتهم بتمعن، ففي كل أزمة مهما اشتدت فرصة كبيرة للتغيير والانتقال من واقعٍ إلى آخر إذا ما توافرت الرؤية الثاقبة والإرادة القوية وتحديد نقاط القوة والضعف بدقة.
الكثير من القوى العالمية الفاعلة اليوم كانت تعيش أوضاعاً أسوأ بما، لا يُقاس، بالواقع العربي الراهن ولا تمتلك سوى نسبة مئوية ضئيلة مما تملكه منطقتنا من ثروات، ومع ذلك تغلبت على معوقاتها ونهضت مستغلة لحظة ما
بحسب المفكرين الاستراتيجيين، عالم ما بعد وباء كورونا سيشهد انحسار العولمة، إن لم نقل موتها ودخولها أسفار التاريخ، في مقابل تنامي الديناميات الوطنية والقومية، وأكبر مثال على ذلك التحديات التي واجهت منطقة "شينغن" وعجز دولها عن التوافق على رؤية محددة لمواجهة تحديات الوباء، فضلاً عن احتدام التنافس بين صُنّاع الأدوية في الدول الحليفة بدلاً من تعاونهم لإنقاذ أنفسهم قبل إنقاذ الآخرين.
وبنظرة بانورامية على تأثيرات جائحة كورونا على دولنا العربية نجد أنها الأقل على صعيد الإصابات والموتى، حسب إحصاءات الجهات الرسمية، ففي كل الدول العربية، التي يزيد عدد سكانها على 300 مليون نسمة، لم يصل عدد الضحايا للحد الذي وصل إليه في إيطاليا البالغ عدد سكانها نحو 60 مليونا، ولا إسبانيا أو الولايات المتحدة، رغم الفرق الشاسع بين المنطقتين علمياً وتقنياً وصحياً وخدماتياً، وهذا بحد ذاته إيجابية كبيرة يمكن تحويلها إلى فرصة مع توافر الإرادة والرؤية.
كما أظهرت الدول العربية خلال هذه الفترة العصيبة قدرة حكوماتها على ضبط المجتمع وإلزام أفراده بقوانين الوقاية من انتشار الفيروس، الأمر الذي عجزت عنه حكومات كانت مضرباً للمثل في نُظمها الإدراية والاجتماعية، وأظهر الإنسان العربي وعياً والتزاماً لافتين، رغم الإمكانات المتواضعة، وهي نقطة تحسب له.
وكشف وباء كورونا أن غالبية الحكومات العربية وضعت سلامة الإنسان والمجتمع في قمة سلّم أولوياتها، فلم تتردد في اتخاذ تدابير السلامة مهما بلغت أكلافها، وهو ما لم تستطع الولايات المتحدة بعظمتها القيام به؛ لأن العامل الاقتصادي ظل الهاجس الأول والأخير لصانع القرار.
هذه المقاربات وغيرها الكثير توصلنا إلى نتيجة، مفادها أن المنطقة العربية ستخرج من أزمة كورونا بخسائر لا تكاد تُذكر مقارنة مع غيرها من دول ومناطق أخرى، وفي ذلك أيضاً إيجابية يمكن تحويلها إلى فرصة ثمينة لعالم ما بعد كورونا.
لن أتعمق كثيراً بملامح وشكل العالم مسقبلاً، فقد كُتب فيه الكثير ونُظّر له من كل التوجهات والمشارب، والكل أجمع على أنه متجه لتبني نظرية "عن بُعد". أما معطياتنا العربية، حسب اعتقادي، تتطلب منا تبني عكس هذا المفهوم وبناء الخطط وفقاً لنظرية "عن قُرب" لجمع طاقتنا غير المحدودة وفي مقدمتها البشرية، للبدء ببناء قوة عربية اقتصادية وعلمية مؤثرة، وفي أدراجنا مئات الخطط والدراسات والرؤى العلمية التي تراكمت على مدى عقود من الزمن حول ذلك.
في صباح اليوم التالي لإعلان العالم القضاء على وباء كورونا سينشغل الجميع بمداواة جراحه، وتوقع أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو جوتيريس حدوث اضطرابات اجتماعية في الكثير من الدول، وبالتالي ستدور الماكينات مُسابقة الزمن لإصلاح الأضرار، ما يعني أن أحداً ممن كانوا يوصفون بقادة العالم لن يجد الوقت أو الجهد الكافيين لتضييعهما على مساعدة الآخرين قبل تعافيه تماماً مما ألّم به، وهي فترة انتقالية كافية لقطع أشواط طويلة على طريق حلم إنشاء منطقة عربية صاعدة، استناداً إلى ما نمتلكه من ثروات وإمكانات قلّ نظيرهما في أي منطقة أخرى.
الكثير من القوى العالمية الفاعلة اليوم كانت تعيش أوضاعاً أسوأ بما، لا يُقاس، بالواقع العربي الراهن ولا تمتلك سوى نسبة مئوية ضئيلة مما تملكه منطقتنا من ثروات، ومع ذلك تغلبت على معوقاتها ونهضت مستغلة لحظة ما.
أعلم.. كما يعلم كل عربي حجم التفاوتات والاختلافات بين الدول العربية في مجمل المجالات، ولكن في المقابل هناك مراكز عربية في قارتي آسيا وأفريقيا متوافقة على الكثير من القضايا والرؤى، فما الذي يمنع أن تكون هذه الدول نقطة البدء لتنفيذ هذه الرؤية؟
ثقل السعوية ومصر غير المحدود، وقصص نجاح الإمارات المُلهمة في الإدارة والبناء والاقتصاد والعلاقات الدولية المتوازنة، ستنتج قوة دولية مؤثرة إذا أضيفت إليها ثروات السودان وموريتانيا المهدورة وإمكانات المغرب على سبيل المثال؛ حيث تصبح هذه المنظومة بقوتها الاقتصادية وازدهارها العلمي والاجتماعي نقطة جذب قوية لبقية الدول العربية الأخرى، وقوة إقليمية مؤثرة لحل المعضلات والنزاعات، فضلاً عن محوريتها في إحداث نقلة نوعية في الوعي العربي عموماً.
لا يختلف اثنان على أن تحقيق مثل هذا الحلم في حاجة إلى جهود جبارة وعمل مستدام، كما لن يختلف اثنان على أن مستقبلنا ومستقبل أجيال منطقتنا القادمة يستحقان ذلك وأكثر، خاصة أن وباء كورونا نزع من الرؤوس الكثير من الأوهام.
والقاعدة الذهبية تقول: إن امتلاك ناصية الغد يتطلب بدء العمل اعتباراً من فجر اليوم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة