علينا أن نتذكر أيضا أنه كانت هناك معارضة دائمة لأفكار كينز والمطالبة بالعودة لترك الحرية الكاملة لآليات السوق
عقب الأزمة المالية العالمية لتي اندلعت في عام 2008 أثيرت العديد من الأسئلة التي تتعلق بمدى سلامة الأفكار النيوليبرالية التي راجت خلال العقود الثلاثة السابقة والتي ذهبت إلى أن اقتصاد السوق الحر تماما من تدخل الدولة، باعتباره أنجح نظام لتحقيق الازدهار الاقتصادي وقهر الفقر وغيره من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية.
جدلية الواقع والفكر في دور الدولة
وقد وجهت للأفكار النيوليبرالية الاقتصادية ضربة قوية مع اندلاع تلك الأزمة العالمية خاصة مع الاتجاه المتزايد للدول الغربية عامة وبشكل خاص في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا لوضع خطط لإنقاذ المؤسسات المالية تستند إلى الموارد العامة.
وأدى هذا إلى ارتفاع أصوات من قبل كتل جماهيرية واسعة للاحتجاج على التدخل لإنقاذ هذه المؤسسات عن طريق الإنفاق العام أي من جيوب دافعي الضرائب من الطبقات المتوسطة والفقيرة، إلى درجة أن ثار شعار بين الجمهور أنهم "يخصخصون الأرباح ويعممون الخسائر"؛ حيث زاد الميل نحو الاستحواذ على العديد من الشركات أو التأميم العملي لبعضها مع مدها بالأموال العامة مقابل حصص في رأس مال هذه المؤسسات. ثم بعد التغلب على الأزمة تم تخارج الاستثمارات العامة مرة أخرى وعادت الشركات خالصة لأيدي القطاع الخاص مرة أخرى.
الواقع أن البداية القوية لوجود دور قوي للدولة في الاقتصاد جاءت بعد أزمة الكساد العظيم خلال نهاية العشرينيات واستغرقت كامل فترة الثلاثينيات من القرن الماضي
والواقع أن البداية القوية لوجود دور قوي للدولة في الاقتصاد جاءت بعد أزمة الكساد العظيم خلال نهاية العشرينيات واستغرقت كامل فترة الثلاثينيات من القرن الماضي، والتي كانت فترة عصيبة أعقبت فترة من الازدهار الاقتصادي بعد نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918. وقد شهدت هذه الأزمة اضطرار الدول الرأسمالية إلى تبني العديد من قواعد وأسس العمل التي كانت مستبعدة في التطبيق الرأسمالي منذ انتصرت الرأسمالية كنظام على النظام الاقطاعي.
وكان أفضل تعبير عن ذلك ما أسمي "بالصفقة الجديدة New Deal" والتي طبقها الرئيس الأمريكي روزفلت خلال فترات ولايته (1933-1945) وقد استندت هذه القواعد الجديدة منذ منتصف الثلاثينات إلى الدفاع النظري القوي الذي قدمه كتاب الاقتصادي البريطاني الشهير "جون مانيارد كينز" "النظرية العامة في التشغيل وسعر الفائدة والنقود" والذي نشر عام 1936، وهو الكتاب الذي سيطرت أفكاره على الساحة النظرية وعلى عملية صنع السياسات الاقتصادية في الدول الغربية وغيرها منذ منتصف الثلاثينيات وحتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي.
وقد تم المجادلة في هذا الكتاب أنه في ظل أزمات الركود لا بد من تدخل الدولة بقوة في النشاط الاقتصادي من خلال الإنفاق العام لحفز الطلب الفعال الذي يصاب في مقتل بسبب الركود وخروج العديد من العمال إلى حالة البطالة.
وجادل كينز بأن حفز الطلب الفعلي عن طريق حقن الاقتصاد بالسيولة لتشغيل العمال حتى ولو كان عن طريق تكليفهم بحفر حفر ثم إعادة ردمها مرة أخرى سيدفع نحو زيادة الطلب الفعلي الاستهلاكي، وهو ما سيؤدي إلى زيادة الاستثمار زيادات مضاعفة عن طريق ما أسماه بمضاعف الاستثمار.
وهكذا تم التأسيس لدور قوي للدولة في العالم الرأسمالي الغربي، خاصة في أعقاب انتصار الفكرة الاشتراكية في روسيا عام 1917 ثم في العديد من بلاد أوروبا الشرقية وبلاد العالم الثالث فيما بعد. إلا أن التوجه العام ظل في أن ما تم الدعوة إليه في هذا الكتاب كان من قبيل الدفاع عن الرأسمالية بكل الأساليب الممكنة في ظل بقاء السلطة السياسية وأغلب النشاط يسيطر عليها الرأسماليون، بل إن الهاجس الأساسي لدى كينز أثناء كتابة هذا الكتاب كان الخوف من التحول على نحو واسع إلى النظام الاشتراكي في الدول الغربية ذاتها، وهو تهديد كان ماثلا بالفعل مع زيادة قوة الأحزاب السياسية الاشتراكية في العالم الغربي في تلك الفترة.
ونسوق هذا الحديث لنقول إنه إذا كانت الدول الرأسمالية المتقدمة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية قد اضطرت تحت ضغط الأزمة العالمية الأخيرة في عام 2008 إلى الأخذ بإجراءات مثل الاستحواذ، التأميم، الدعم وغيرها، فقد كان الهدف هو العبور من الأزمة بكل السبل الممكنة للحيلولة دون انهيار النظام الاقتصادي قاطبة.
وعلينا أن نتذكر أيضا أنه كانت هناك معارضة دائمة لأفكار كينز والمطالبة بالعودة لترك الحرية الكاملة لآليات السوق، وهي أفكار عبر عنها التيار الذي مثله اقتصاديون كبار مثل الاقتصادي النمساوي/الإنجليزي "هايك" والاقتصادي الأمريكي "مليتون فريدمان" والمدرسة التي تتبعه في جامعة شيكاغو الأمريكية، إلا أن هذه الأفكار لم تجد الفرصة لتطبيقها أيضا إلا في ظل أزمة اقتصادية كبيرة في الدول الغربية وهي ما أسميت بأزمة "الركود التضخمي" في منتصف السبعينيات من القرن الماضي؛ حيث تزامن لأول مرة ركود اقتصادي عميق مع ارتفاع في أسعار السلع والخدمات، وهي حالة لم تكن متصورة مسبقا في الفكر الاقتصادي؛ حيث كان المعتاد هو ترافق الركود مع انخفاض في الأسعار.
وترافق حالة الازدهار مع ارتفاع في المستوى العام للأسعار، ولذا لم يكن غريبا أن الفكر الاقتصادي الكينزي المسيطر حار في كيفية حل هذه الأزمة. وقد منح ذلك الفرصة لأنصار المدرسة النيوليبرالية في اعتلاء خشبة المسرح مع صعود مارجريت تاتشر للحكم في بريطانيا ودعوتها إلى خطط اقتصادية تهتدي بهدي أفكار هذه المدرسة أو ما أسمي بمدرسة العرض؛ لأنها مدرسة كانت تدعو إلى التركيز على جانب العرض وكيفية زيادة الإنتاج، عوضا عن التركيز على جانب الطلب كما كان يفعل الفكر الكينزي.
وقد وجدت مارجريت تاتشر دعما لها مع انتخاب الرئيس الأمريكي رونالد ريجان للحكم في الولايات المتحدة عام 1980، حيث تبنى نفس البرنامج تقريبا مع وجود "ميلتون فريدمان" ذاته كمستشار اقتصادي للرئيس. ثم جاء التبني العالمي لنفس الأفكار مع صياغة ما أسمى "بتوافق واشنطن" “Washington consensus في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وهي ترجمة للأفكار نفسها طبقتها المؤسسات المالية الدولية، خاصة صندوق النقد الدولي.
وأصبحت الخطوط الأساسية لسياسات مثل الخصخصة وترك النشاط الاقتصادي للقطاع الخاص دون تدخل الدولة وترك آليات السوق لتعمل بحرية دون تدخل الدولة في نظام الأسعار، وذلك أساسا عن طريق خفض الإنفاق الحكومي لخفض عجز الموازنة، خاصة بإزالة الدعم المقدم للفقراء، وغيرها من النصائح التي تضمنها ما أسمي ببرنامج "الإصلاح الهيكلي"، وهو البرنامج الذي قدمه صندوق النقد الدولي لكافة بلدان العالم خاصة في العالم الثالث كشرط لحصولها على ما تحتاجه من تمويل من المؤسسات المالية الدولية. وباختصار يمكن القول إن سقوط بعض الأفكار وصعود بعضها الآخر يأتي في الغالب في ظرف أزمة عميقة، هكذا كان الحال مع صعود الفكر الكينزي في أعقاب الكساد العظيم في الثلاثينيات، ثم صعود الفكر النيوليبرالي في أعقاب أزمة الركود التضخمي في منتصف السبعينيات، وهكذا كان الحال أيضا مع الأزمة المالية العالمية وتحولها إلى ركود واضح في الدول الصناعية المتقدمة في عام 2008.
ونرى موقفا مماثلا الآن مع أزمة تفشي فيروس كورونا والإغلاقات الاقتصادية وما ترتب عليها من ركود اقتصادي وتسريح للعمال، حيث نرى تدخلا من جانب كافة بلدان العالم في حقن النظام الاقتصادي بالسيولة وإقرار سياسات مالية ونقدية عبر خطط للتحفيز الاقتصادي هائلة وغير مسبوقة من حيث الحجم. بل إن بعض المسؤولين لاسيما في فرنسا أشار إلى أنه يمكن حتى اللجوء لتأميم بعض الشركات حماية لها من الانهيار والإفلاس.
وبينما سارع البعض للقول إن هذا التدخل سيعد واحدا من معالم اقتصاد ما بعد كورونا، فهناك العديد من الأسباب التي تجعلنا نتحفظ حول هذا الاستنتاج. وأهم هذه الأسباب هو أن الركود الحالي لم يكن ركودا معتادا بسبب انخفاض في الطلب الفعلي، بل هي أزمة صحية أجبرت دول العالم على إغلاق الأنشطة الاقتصادية، وترتب عليها مشكلات في كل من جانبي العرض والطلب. ومن الصعب إذا النظر لهذا الركود على أنه جزء من الدورة الاقتصادية المعتادة من الركود والازدهار وتوجيه اللوم لطرف ما باعتباره مسؤولا عنه، كما كان الأمر مع القطاع المالي في أزمة عام 2008 مثلا. إلى جانب ذلك فأغلب التوقعات تذهب إلى أنه بعد احتواء فيروس كورونا، ستسجل أغلب اقتصادات العالم توسعا وازدهارا اقتصاديا كبيرا. لهذا قد يقتصر الدور الأقوى للدولة ما بعد كورونا على بعض القطاعات مثل القطاع الصحي وبالتحديد عبر الاحتفاظ باحتياطي استراتيجي أكبر نسبيا من مواد الحماية الطبية الأساسية ومن بعض الأدوية والمعدات، أما فيما عدا ذلك ففي غمار الازدهار الاقتصادي سينسى أمر تدخل الدولة ويعود النظام للعمل كما كان يعمل انتظارا لتحول جديد مع الأزمة القادمة بغض النظر عن سبب تفجرها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة