بدأ الشهر الكريم على إيقاع ساخن، بفعل الجدال المحتدم حول الصيام في حال الوباء،
"إنما العلم الرخصة من ثقة، فأما التشدد فيحسنه كل أحد" مقولة مأثورة عن واحد من جلة التابعين وكبار فقهائهم هو سفيان الثوري؛ وإخالها توجز حكمة بليغة نقف اليوم عليها، حين أحوجتنا النقاشات الدائرة حول فقه العبادة في رمضان زمن الوباء إلى الاسترشاد بمعالم هادية للفكر، والالتزام بضوابط التعامل مع الوحي في مقاصده ونصوصه معا، وتنزيل أحكامه على أحوال الناس وفق مبدأ التيسير، خاصة في زمن الاستثناء؛ شأن رمضاننا هذا، الذي نكابد فيه آثار الجائحة التي تدهم العالم.
بدأ الشهر الكريم على إيقاع ساخن، بفعل الجدال المحتدم حول الصيام في حال الوباء، وهل يُلزم الناس بالصيام في زمن كورونا؟ وهل لذلك من تأثير على مناعة الصائم في مواجهة المرض؟ وما لبث الجدال أن امتد إلى صلاة التراويح جماعة في المساجد، الموقوفة في أنحاء العالم بسبب إجراءات التباعد الاجتماعي والحجر الصحي في البيوت؛ وهل يجوز هذا الوقف شرعا؟ وهل تصح صلاة التراويح في البيوت جماعة أو فرادى؟.
بدأ الشهر الكريم على إيقاع ساخن، بفعل الجدال المحتدم حول الصيام في حال الوباء، وهل يُلزم الناس بالصيام في زمن كورونا؟ وهل لذلك من تأثير على مناعة الصائم في مواجهة المرض؟
وكان واضحا أن المواقف انقسمت إلى طرفين نقيضين كالعادة، كلاهما يعود لإثبات رأيه إلى نصوص التراث يأخذ منها إلى الواقع الراهن، نقلا لا تفكير معه، واستحضارا يضرب صفحا عن اختلاف الزمان وحركة العلم والواقع.
ففي حال الصيام، هرع فريق إلى آراء بعض الأطباء القدامى كالرازي وابن النفيس وابن سينا، فيما كتبوه عن الأوبئة المسماة في عصورهم "الطواعين، وفساد الهواء، والمرض الوافد..."والذين ذهب بعضهم إلى أنه يُتجنب الصيام في زمن الوباء لأنه يضعف الجسم في مواجهته. ثم أكد الفريق المقابل أن العذر المبيح لإفطار المسلم في رمضان هو مرض المكلف نفسه لا غيره وإن كثروا كما هو الحال في زمن الجوائح...
يل إن فريقا آخر رجع إلى بعض ما كتب في أزمنة سابقة عن حكم الاحتياط من الوباء نفسه، واستدلوا بحديث) لا عدوى ولا طيرة ((رواه البخاري ومسلم) بلا فهم لسياقه ومعانيه، مستشهدين بما كتبه بعض العلماء المتقدمين عن الطواعين، وأنها "رحمة بالمؤمنين" كما فعل ابن حجر العسقلاني في كتابه "بذل الماعون في فضائل الطاعون" وغيره...
والواقع أن تلك الآراء وقبل أن تقصِر في الاطلاع على معطيات العلوم الطبية في عصرنا، قد أهملت أن تقرأ قراءة مستوعبة ومتكاملة ما أنتجه الفقه الإسلامي في أحكام الوباء عبر تاريخه إلى العصر الراهن، وعلى امتداد تراث شاسع بدأ في تاريخ الإسلام مع "طاعون عمواس عامي 17-18 هجرية" مستفيدا من العلوم الطبية في عصره، خاصة اليوناني منها، ليخرج بآراء متقدمة للغاية قياسا بكل عصر من عصوره.
أما في عصرنا فقد أكدت المرجعيات الفقهية المعتبرة كلها، استنادا منها إلى الخبرة الطبية الصادرة عن الجهات المختصة، أن الصيام في ذاته لا يؤثر سلبا على مناعة الأصحاء من الناس، وبالتالي فلا مبرر ولا معنى لأن يحرموا من الصيام. أما المرضى بكورونا أو بغيره، وذوي الحالات الصحية الخاصة، فيُتعامل مع كل حالة منهم على حدة، اعتمادا على رأي الطبيب الذي يصير هنا بمنزلة فتوى الفقيه.
أما عن صلاة التراويح، فمن عجب أن يغيب عن ذهن الكثيرين أن صلاتها في البيوت -امتثالا للإجراءات الطبية في حالتا الراهنة- هو عودة بها إلى ما كانت عليه في الأصل. إذ صلاها النبي عليه الصلاة والسلام فردا كما صلاها جماعة، بل خاف على الناس حين اجتمعوا لها خلفه من أن تفرض عليهم. كما في حديث عائشة الذي رواه الإمام مسلم في باب الترغيب في قيام رمضان من صحيحه.
والمعروف أن جمع الناس لصلاة التراويح إنما هو من سنة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فالضرورة التي نعيشها في رمضان اليوم إنما ألجأتنا في الحقيقة إلى الفعل الأول والصيغة الأصلية لصلاة التراويح.
ومن هنا يبدو الإصرار على أداءها جماعة مخالفة لمقصد ديني أعظم هو حفظ النفس، ولسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه كذلك؛ ومحاولة استخدام الوسائل التقنية لصلاتها عن بعد تشددا لا معنى له. بل ربما تحول إلى عادة تبعد عن المساجد يستمرؤها المتهاونون حتى بعد انتهاء زمن الحجر الصحي وعودة المساجد مفتوحة في وجه عمارها إن شاء الله.
إن أداء الصلاة في البيوت فرصة ثمينة للعودة إلى صلاة الجماعة مع الأهل والأبناء، ولمتعة العبادة الجماعية في أحضان الأسرة، وهو عين ما نحتاجه الان في زمن الاتصال المفرط والعوالم الرقمية التي تباعد بين أفرادها، حاجتنا إلى منهج نظر في فقه العبادة في زمن الاستثناء هذا...
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة