هذا ما قاله فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير".. فوكوياما الذي اعتُبر مرشد النموذج الليبرالي الأمريكي
مؤخرا نشر د. مروان المعشر الوزير السابق للخارجية الأردنية مقالا في جريدة "الشرق الأوسط" بعنوان "أزمة كورونا وإمكانية التغير"..
وفي جزء مما تحدث عنه أشار إلى التالي:
"العولمة لن تنتهي ولكنها ستتبدل. هناك كثيرون ممن يتوقعون انتهاء العولمة، باعتبار أن دول العالم بدأت بالانكفاء على نفسها بدلاً من انفتاحها على العالم. لا شك أن العولمة بمفهوم سيطرة اقتصاديات السوق الحرة قد انتهت إلى غير رجعة، بل إن نهاية اقتصاديات السوق الحرة لم تنتهِ على يد كورونا فحسب، وإنما بدأت بالأفول بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008. من الواضح اليوم، أن تدخل الدولة ضروري في بعض القطاعات كالصحة والتعليم والنقل، في حين يجب ابتعادها عن نشاطات أخرى كالتوظيف وإدارة الأنشطة الاقتصادية. لكن الثورة المعرفية وثورة التكنولوجيا ربطتا العالم بشكل لا يمكن تفكيكه، وإنما من الضروري أن تمتد وتتبدل العولمة لتشمل التعاون في مجالات كالوقاية الصحية ومكافحة الأوبئة، وأن تخصص الموارد الكافية لذلك بدلاً من تخصيصها لمجالات كالتسلح مثلاً. لم يخلق فيروس كورونا بسبب العولمة، لكن العولمة هي من ستنجح في محاربته من خلال بلورة رؤية فاعلة، مبنية على انعدام الأنانية والتفاف الأفراد نحو العمل الجماعي وتشارك المعلومة والمعرفة، تماماً كما نجحت في الخروج من أزمات مشابهة شهدناها في العقود الماضية".. انتهى.
هكذا هي ديمومة التاريخ أن المنتصر يفرض قيمه ولغته وثقافته وبالتالي نموذجه، وهكذا فرض الأمريكيون نموذجهم "الليبرالي" بكل أشكاله، واشتغلوا على الترويج لذلك النموذج فكريا عبر مفكريه مثل فوكوياما وهانتنجتون وشتراوس وغيرهم
ربما انطلق د. مروان من تعريف عام للعولمة في معناه البسيط وهو الأدوات التي ربطت العالم ليصبح قرية صغيرة، وتلك الأدوات منها ما هو اقتصادي مثل اقتصاد السوق كما ذكر أو سياسي كسيطرة نموذج واحد لحكم العالم، ثم محاولة نشر مجموعة القيم الخاصة بهذا النموذج المنتصر بعد الحرب الباردة، وهو النموذج الليبرالي الأمريكي لتكون في النهاية قيما كونية يتبناها الأفراد، بل وتتبناها الدول والكيانات الأخرى.
القول إن العولمة لن تنتهي وإنما ستتبدل هو قول مردود عليه، لأن العولمة في المجمل هي عبارة عن مجموعة قيم تم تسويقها لتحكم وتسود وتنتصر، بل روج لها أصحاب النموذج الليبرالي الأمريكي لتكون خاتمة مسيرة البشر ونهاية التاريخ ويكون إنسانها هو الإنسان الأخير الخاتم بمعناها السياسي، أي أنه لن يأتي بعده إنسان آخر يكون مختلفا عنه أو لديه قيم أخرى.
هذا ما قاله فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير".. فوكوياما الذي اعتُبر مرشد النموذج الليبرالي الأمريكي ومنظره الأهم والأبرز.
بالتالي إذا كنا نعترف بأن العولمة في معناها الأعمق ليست بهذه البساطة بأن العالم أصبح قرية، فإننا أمام مجموعة دلالات تؤكد أن القيم إما أن تبقى وإما أن تموت لتأتي قيم غيرها، لا توجد قيمة تبدل جلدها "سيبقى العدل إما عدلا وإما ليس عدلا"، وهكذا المساواة وغيرها من مجموعة القيم.
صحيح العولمة في معناها التاريخي مصطلح قديم، لكن العولمة كفعل تم تكريسها في بداية التسعينيات مع الإعلان عن مولد النظام العالمي الجديد على لسان بوش الأب، فالعولمة فعل ارتبط ارتباطا وثيقا بالقيم السياسية أي قيم المنتصر.
هكذا هي ديمومة التاريخ أن المنتصر يفرض قيمه ولغته وثقافته، وبالتالي نموذجه، وهكذا فرض الأمريكيون نموذجهم الليبرالي بكل أشكاله، واشتغلوا على الترويج لذلك النموذج فكريا عبر مفكريه مثل فوكوياما وهانتنجتون وشتراوس وغيرهم.
وأيضا روجوا لمبادئهم عبر علماء اقتصاد لتكون قيم اقتصاد السوق الحر هي الحاكمة.
وكانت السينما الأمريكية أيضا وسيلة فعالة في نشر النموذج الليبرالي باعتباره نموذج الخلاص، لكن وبعد ما يزيد على ثلاثين عاما نستطيع القول إن قيم النموذج الأمريكي تم اختبارها على أرض الواقع وأثبت التاريخ والواقع ومجريات الأحداث والزمن أنها تعثرت في أن تكون قيما عالمية بالمعنى الذي روج وأريد لها أن تكون.
أولى هذه القيم التي ثبت تعثرها:
ربط وجود تقدم اقتصادي وتنمية بمعناها الواسع بضرورة تبني واتباع النموذج الليبرالي، مبررين بأن الليبرالية الحرة والديمقراطيات تؤدي إلى تحسن اقتصادي وارتفاع مستوى الفرد ودللوا على ذلك بنسبة التقدم في السير نحو الديمقراطيات، فهم يقولون تبعا لتصنيف "فريدوم هاوس" إن الديمقراطيات تقدمت من 42 بلدا في عام 1976 إلى 89 بلدا في عام 2915 وإن نسبة الزيادة من بداية التسعينيات وحتى 2015 هي بفعل اتباع النموذج الليبرالي الأمريكي الحر، متناسين أن هناك دولا كثيرة حدث لها تراجع كبير في مسائل الديمقراطية، بل وفي بنية الدولة نفسها كما حدث هنا في بلادنا العربية والشرق الأوسط بعد ما سمي "الربيع العربي".
الليبرالية الأمريكية لم تحمل في داخلها وصفة بقاء وقوة مؤسسات الدولة ولا حتى نجحت في تحقيق التنمية الاقتصادية التي لا تجعل الشعوب تثور، فالاحتجاجات جلها الأكبر كان سببها اقتصاديا معيشيا قبل أن يكون سياسيا.
أيضا هناك دول لم تتبع المنهج الليبرالي الأمريكي ولا حتى الديمقراطي وأحدثت تقدما تنمويا اقتصاديا مثل الأرجنتين، رغم أنها بقيت تحت حكم سلطوي أو شبه سلطوي لفترات طويلة، إلا أنها استطاعت أن تحقق ارتفاعا نسبيا في مستوى نصيب الفرد من الدخل العام، وهذا ما حدث أيضا في عدد آخر من الدول مثل تايوان وكوريا الجنوبية وأيضا روسيا والصين، كلها دول لم تتبع القيم الليبرالية الديمقراطية الأمريكية بل خالفتها صراحة ونجحت في تحقيق تنمية اقتصادية كبيرة.
وبالتالي بات ما روج له أنصار النموذج الليبرالي في محك الفشل، فما قاله المفكر سيمور مارتن إنه إذا تحققت الديمقراطية والليبرالية تتحقق بالتبعية التنمية الاقتصادية والعكس أيضا صحيح.
رد عليه مفكرون آخرون نسفوا هذه القاعدة وقالوا بعكسها مثل غويليرمو أودنيل الذي قال إن التسلط، وليس الديمقراطية، هو ما يؤدي إلى المستويات المرتفعة للتحديث اقتصاديا واجتماعيا.
القيم الأخرى التي روج لها الليبراليون وأثبت الواقع عدم صدقها وتعثرها، هي ما قيل عن أن قيم الحرية الفردية مطلقة ولا يوجد ما يجعل الفرد يقر بانتزاع هذه القيم منه، ولا تحدث برضاه، فهو المالك لها الذي يقرر مصيرها.
هذه القيمة تكسرت على أول عتبة واجهتها خصوصا بعد دخول العولمة الأمريكية على خط مواجهة ومحاربة الإرهاب، أو كما سماها المفكرون الأمريكيون العشرية المؤلمة التي بدأت من 2001 واستمرت حتى 2011.
وفيها احتل الأمريكيون العراق وقبلها أفغاسنتان وخاضوا حروبا خارجية اعترفوا مؤخرا بأنها لم تؤدِ النتيجة المرجوة منها.
في هذا الإطار وجد النموذج الأمريكي القيمي المتعلق بالحرية نفسه في مواجهة ومأزق كبيرين، حين تقابلت قيمة الحرية الفردية مع قيمة الأمن.
لأنه وببساطة اكتشفوا أن التدابير الأمنية التي تتخذها الدول تحمل في طياتها نسفا لقيمة حرية الأفراد وديمقراطية الدول.
والإنسان اكتشف أيضا أنه قد يضطر إلى التنازل عن حريته الشخصية في مقابل تحقيق غاية أكبر وهي الأمن.
وهكذا الدول قد تقبل أن تتعاون مع دولة كبرى وتتنازل عن جزء من سيادتها في سبيل تحقيق غاية المساعدة في تطبيق الأمن الداخلي للدولة.
ولعل استراتيجية الحرب على الإرهاب التي وقعتها أمريكا مع العديد من الدول مثل باكستان مثلا تؤكد ذلك، لأنها نشرت قوات أمريكية على أراضيها، وباكستان قبلت لأنها ستحقق غاية مهمة وهي الأمن من خطر القاعدة.
نكمل بقية القيم في المقال القادم..
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة