الأوبئة والمخاطر الاقتصادية.. "كورونا" نموذجا
من المتوقع إذا طال أمد الأزمة التي تسبب بها فيروس كورونا، تتضرر أجزاء مهمة من الاقتصاد العالمي.
منذ أن أعلنت الصين وفاة عدد من مواطنيها، في أوائل يناير/كانون الأول الماضي، نتيجة ظهور وانتشار الفيروس التاجي "كورونا"، الجديد، بين سكان مدينة ووهان، الذين يزيد عددهم عن 11 مليون نسمة، أُصيبت المنظومة الاقتصادية العالمية بحالة من الذعر، جراء احتمال خروج الأمر عن نطاق السيطرة، ما قد يؤدي إلى تراجع عجلتي الإنتاج والاستهلاك في أكبر دول العالم من حيث عدد السكان.
بل إن الصين أكبر مُصدر للسلع في العالم وثاني أكبر الاقتصادات الدولية، أضحت في عزلة شبه تامة عن العالم، بعد أن قرر عدد من شركات الطيران العالمية تعليق رحلاتها الجوية إلى هذا البلد، فيما سارعت دول متعددة إلى إجلاء رعاياها بعد تفشي هذا الفيروس وارتفاع ضحاياه، وهو ما دفع بعض الشركات العالمية إلى إغلاق مصانعها في خطوة تُنذر بالتراجع في الاقتصاد الصيني.
فهل سيُلقي انتشار كورونا بظلاله على الفرص التوسعية لنمو ثاني أكبر اقتصاد في العالم؟.. وهل يكون أمام الاقتصاد العالمي "وقت صعب" إذا لم تجر السيطرة على الفيروس الجديد؟.
- قلق متزايد من تأثير "كورونا" سلبا على التجارة العالمية
- البنك الدولي يعتزم تخصيص دعم مالي لمواجهة فيروس
مخاطر الأوبئة
ربما يتعجب البعض حين يلاحظ أن أخطر ما في هذه الأزمة أنها وقعت في الصين تحديدًا، في هذا التوقيت؛ إذ لو ظهر هذا الفيروس في أفريقيا مثلا، لما حصلت القارة السمراء على مثل هذا الاهتمام، ولنا هنا أن نتذكر كيف كان ضعف الاهتمام العالمي بفيروس "إيبولا" الذي ظهر في أفريقيا قبل سنوات.
بل، إن الأمر الجدير بالتأمل أن فيروس كورونا لو ظهر في الصين نفسها قبل 4 عقود لما حدثت الضجة الحاصلة الآن؛ وذلك لسبب بسيط، فالصين اليوم أصبحت جزءًا أساسيًا من الآلة الصناعية العالمية الحديثة، باعتبارها مسؤولة عن "سُدس" الإنتاج العالمي. ومن ثم، يُضيف فيروس كورونا بُعدًا صعبًا ومُعقدًا للاقتصاد والتجارة العالمية، ولا يُعد صدمة للنمو الصيني فحسب، ولكن للأسواق العالمية ككل.
وحول هذه المخاوف، أشار جيري رايس المتحدث باسم صندوق النقد الدولي للصحفيين، الخميس 30 يناير/كانون الثاني الماضي، بقوله: "لسنا في مرحلة تسمح لنا بوضع أي أرقام ثابتة حول تأثير كورونا"؛ مؤكدًا أن "صندوق النقد الدولي يُراقب الفيروس، وقد يكون مُستعدًا لتقديم تقديرات مُحددة بحلول موعد اجتماع وزراء مالية مجموعة العشرين في السعودية يومي 22 و23 فبراير/شباط".
وتجدر الإشارة هنا إلى أن صندوق النقد الدولي كان قد أعد دراسة كشفت عن أن "انتشار الأوبئة يُكلف الاقتصاد العالمي نحو 570 مليار دولار سنويُا، أو ما يوازي نحو 0.7% من حجم الناتج المحلي العالمي". ومُقارنة بانتشار فيروس "سارس"، الذي انتشر أيضًا في الصين، في عام 2003، أكد الصندوق في هذه الدراسة أن "انتشار فيروس سارس قد تسبب في خسائر للاقتصاد العالمي تُقدر بنحو 50 مليار دولار".
وهكذا، فإن انتشار الأمراض والأوبئة، من الممكن أن تؤدي إلى مخاطر اقتصادية على مستوى العالم، عبر تأثيرها على مواطن الانتشار، وأيضًا على محركات النمو الاقتصادي الرئيسة في العالم، كالتجارة والسياحة والنفط.
وعلى سبيل المثال، وكما أوضحت دراسة صندوق النقد الدولي، فإن فيروس "ميرس"، الذي انتشر في كوريا الجنوبية، في عام 2015، قد تسبب في تراجع حركة السياحة في البلاد بنحو 41%. أما فيروس "إيبولا" فقد أصاب اقتصادات دول غرب أفريقيا بخسائر بلغت أكثر من ملياري دولار. هذا فضلًا عن مرض "جنون البقر" الذي دفع الاتحاد الأوروبي إلى فرض حظر على واردات اللحوم البريطانية استمر لمدة 10 أعوام.
تداعيات اقتصادية
ولم تتوقف الدراسات عند حدود صندوق النقد الدولي، فقد أظهرت دراسة أجرتها لجنة المخاطر العالمية، في عام 2016، أن الأمراض الوبائية سوف تُكلِف الاقتصاد العالمي أكثر من 6 تريليونات دولار خلال القرن الواحد والعشرين.
وفي أحدث تقرير عن خسائر الاقتصاد العالمي نتيجة جراء تفشي فيروس كورونا، الجديد، داخل الصين وخارجها، ذكرت وكالة "بلومبرج" الأمريكية، في تقرير بثته على موقعها السبت الماضي، أول فبراير/شباط الجاري، أن الاقتصاد العالمي أصبح مُهددًا بخسارة أكثر من 160 مليار دولار؛ حيث أوضح التقرير أن التقديرات الأولية بهذا الشأن قد تفوق الخسائر التي تسبب بها فيروس سارس عام 2003، بمعدل يتراوح ما بين 3 إلى 4 أضعاف "لتكسر حاجز 160 مليار دولار".
وما أثار المخاوف من تداعيات انتشار كورونا على الاقتصاد العالمي، إعلان منظمة الصحة العالمية، قبل أيام، عن "حالة طوارئ صحية ذات بعد دولي"، خاصة بعد انتشار الفيروس عالميًا في زمن قياسي، وظهوره في العديد من مناطق العالم؛ حيث أظهرت إحصاءات المنظمة أن 18 بلدًا آخر غير الصين قد أصابها الفيروس.
يعني هذا أنه إذا طال أمد الأزمة التي تسبب بها فيروس كورونا، فسوف تتضرر أجزاء مهمة من الاقتصاد العالمي، لنا أن نتأمل كيف إن إغلاق المصانع الصينية أبوابها ولو مؤقتًا، سوف يتسبب في تعطيل القطاعات الصناعية في كثير من البلدان حول العالم، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، من حيث اعتمادها بشكل كبير على سلاسل التوريدات الصينية في عدة قطاعات، أبرزها التكنولوجيا والمستحضرات الطبية والسيارات.
هذا، فضلًا عن أن دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية وفيتنام يمكن أن تعيش كابوسًا اقتصاديًا، بالنظر إلى أن 40% من إجمالي وارداتها من المنتجات المصنعة الوسيطة، بحسب إحصاءات عام 2017، تأتي من الصين. وهو ما يشير إلى أن فيروس كورونا الجديد، سوف يترك بصماته بوضوح على الاقتصاد العالمي، بما يمثله الاقتصاد الصيني من إحدى المحركات الرئيسة له.
"كورونا" نموذجًا
يبدو ذلك بوضوح، إذا لاحظنا كيف أعلنت 14 مقاطعة ومدينة صينية، تُمثل "ثلثي" الناتج المحلي الصيني، فضلًا عن 78% من صادرات البلاد، أن الشركات والمصانع الموجودة بها سوف تؤجل استئناف عملياتها لمدة أسبوع آخر، عقب نهاية الإجازة السنوية، التي كان من المُقرر أن تنتهي في 30 يناير/كانون الأول الماضي. فهذه المدن والمقاطعات الأربعة عشرة، مسؤولة عن 90% من عمليات صهر النحاس في الصين، و60% على الأقل من إنتاج الصلب، و65% من أنشطة تكرير النفط، إضافة إلى 40% من إنتاج الفحم.
بل إن ما يزيد من تفاقم الأوضاع أن أهمية الصين بالنسبة إلى العالم لا تقتصر على إنتاجها الصناعي وحسب؛ فالمستهلكون الصينيون يشكلون جزءًا أساسيًا من قاعدة عملاء كبرى الشركات العالمية المنتجة للسيارات والهواتف الذكية وغيرها من المنتجات؛ ناهيك عن السياحة، التي تأتي في مقدمة القطاعات التي سوف تتأثر بفيروس كورونا، بعد أن تسبب في تقييد حركة السفر في العديد من الدول حول العالم.
ووفقًا لمنظمة السياحة العالمية، فإن الصينيين عندما يسافرون إلى خارج البلاد فإنهم ينفقون 258 مليار دولار، وهو ما يقترب من "ضعف" ما ينفقه السياح الأمريكيون كمثال. وبصرف النظر عن احتفالات "السنة القمرية" الجديدة، التي كان من المفترض أن تشهد قيام أكثر من 200 مليون صيني بالسفر للاحتفال بهذه المناسبة، تكفي الإشارة إلى مدى تأثير ظهور الفيروس في الصين، التي خرج منها نحو 150 مليون سائح، خلال عام 2018، وأنفقوا نحو 277 مليار دولار في مختلف دول العالم.
وفي الوقت نفسه، فقد كانت الصين، في العام نفسه، رابع أكبر وجهة للسياح القادمين بعد كل من فرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة؛ حيث استقبلت أكثر من 141 مليون سائح، بمن فيهم أولئك القادمون من هونغ كونغ وتايوان.
السياحة والنفط
هنا، يبدو مدى تأثير كورونا الذي قد لا يقتصر على الصين وحدها؛ فالاقتصاد العالمي يعتمد بشكل واضح على إيرادات السياحة، التي وصلت في العام نفسه، عام 2018، إلى تريليون و700 مليون دولار، فضلًا عن فرص التوظيف التي يوفرها هذا القطاع.
أيضًا، يبدو أن تأثير كورونا لا يتوقف عند هذه الحدود، ولكنه يمتد إلى قطاعات أخرى من بينها قطاع النفط؛ إذ رغم أن الحاجز الذي يمنع أسعار النفط من التراجع حتى الآن هو "رفض منظمة الصحة العالمية فرض قيود على التجارة والسفر"، إلا أن محنيات أسعار النفط المتقلبة تشير إلى مثل هذا التأثير، فالتعطل الذي يمكن أن يطال المصانع الصينية، يعني أن حاجة الدول الآسيوية للنفط الخام سوف تقل، وهو ما سيؤدي إلى انخفاض وارداتها منه، هذه الحقيقة سرعان ما انعكست على أسعار الخام التي تراجعت بنحو 15% في يناير/كانون الأول الماضي.
وهكذا، فمن المتوقع أن تتأثر بعض الدول المنتجة للنفط والغاز، وخصوصًا تلك التي تستهدف الصين، التي تُعد ثاني أكبر مستهلك للنفط في العالم بعد الولايات المتحدة، وأكبر مستورديه على الإطلاق.
في هذا السياق، لا يمكن إنكار أن الصين تمتلك راهنًا مجموعة أدوات أكبر وأكثر تطورًا لمكافحة أي تباطؤ اقتصادي، ناتج عن انتشار فيروس كورونا، على الأقل مقارنة بعام 2003، عندما حاربت فيروس سارس الذي انتشر كالوباء، واستطاعت السيطرة عليه في خلال 8 أشهر.
فهل يصمد الاقتصاد العالمي مدة مثل تلك، بدون المصانع الصينية والمستهلكين الصينيين؟.. ممكن.
aXA6IDMuMTM1LjIwMi4zOCA= جزيرة ام اند امز