لقد أسعفت التقنيات الحديثة البشر في الخروج من هذه العزلة القسرية والانفتاح على العالم الخارجي
لطالما تدفع المصاعب التي يواجهها البشر إلى ابتكار الوسائل التي تقضي عليها، فمن خضمّ هذه المصاعب تولد الحلول.
إن الحجر المنزلي وقاية مؤكدة للتصدي لوباء كورونا القاتل لا يعني الركون إلى السكون والتراخي والكسل، فالأشخاص والمدن والدول في العالم ذهبت إلى الطرق المبتكرة والمُلهمة للتعامل مع هذا الوباء، وتذليل الصعوبات أمامه، وظهرت "ثقافة الحجر المنزلي" ردَّا على الأزمة.
كشف هذا الوباء عن سمات ثقافية يمتاز بها كل بلد عن غيره، وأعاد إلى الواجهة أهمية الثراء والتنوع الثقافي في العالم.
ولعل الثقافة بما تملكها من طاقة روحية كبيرة إحدى هذه الوسائل الناجعة. وبما أن الثقافة كانت على مر العصور غذاءً للروح، فهي التي تعين البشر في وقت الشدّة.
كشف هذا الوباء عن سمات ثقافية يمتاز بها كل بلد عن غيره، وأعاد إلى الواجهة أهمية الثراء والتنوع الثقافي في العالم.
كلنا يدرك أن العالم بات يُصنّف بما قبل كورونا وما بعد كورونا، إنه منعطف التاريخ الذي يجب على البشر أن يتكيّفوا مع معادلاته وموازينه الجديدة. وهذا ما جعلنا نعيد التفكير بعالم الغد الذي يكون جزء منه من صنعنا وجزء آخر من صنع تاريخ الوباء.
العالم عانى من تداعيات كارثية في المجالات كلها بلا استثناء، والثقافة التي هي جوهر الإنسان تضرّرت، فقد تم إغلاق معظم المؤسسات الثقافية والفنية غير الربحية، والتي تعتمد في مصادر تمويلها إمّا على الدول أو على الأشخاص، المعارض والمتاحف وصالات السينما ودور الأوبرا والمهرجانات والغاليريهات والمعاهد والمدارس، وغيرها توقفت عن استقبال روادها وعشاقها، لكن ذلك لا يعني إغلاقها نهائيا في وجوهنا، فيمكن التواصل معها، والتفاعل مع المنتوج الثقافي الذي أصبح الطبق المفضل، ولا أحد يتمكن من التخلي عن نشاطاتها.
لذلك أقدمت الدول على دعمها في الدرجة الأولى. فرنسا على سبيل المثال، لا الحصر، قدمت أكثر من عشرين مليون يورو لتدعم دور النشر لأنها لا تريد للكتب أن تختفي من عالمنا.
وهبّت منظمات ثقافية مثل "الإيسيسكو" و"الألكسو" إلى حث الدول على تقديم الدعم للثقافة لتتمكن المؤسسات الثقافية من الاستمرار، والتكيّف مع الأوضاع الجديدة التي أفرزها وباء كورونا، ومن ابتكارات البشر أننا بدأنا نرى اللوحات والأفلام ومعارض الكتب والندوات والمتاحف والحفلات الموسيقية والغنائية الكترونيا وافتراضيا وعن بعد، هذه الوسائل كانت متوفرة ولكن الكورونا حسم أمرها لصالح استخدام الإنسان، وقفز إلى الواجهة، وأصبح عشّاق الفنون والآداب والفكر يطلون على هذه النشاطات الثقافية انطلاقًا من حجرهم الصحي. وهذا ابتكار غير مسبوق في مواجهة وباء كورونا.
لقد أسعفت التقنيات الحديثة البشر في الخروج من هذه العزلة القسرية والانفتاح على العالم الخارجي. لذا فهي فرصة تسمح لنا بالتفكير، وبنسيان آليات المدينة بمنطقها القديم قبل كورونا وتجاوز تقاليدها والتزاماتها ولقاءاتها المفروضة من منطلق إيجابي، وإعادة الألق إلى القراءة والإبداع في الحجر المنزلي.
فرض علينا هذا الوباء إعادة التفكير في عالم الغد، وفي اقتصادنا، وفي مؤسساتنا، وفي أنماط حياتنا ووجودنا في امتحان عسير لا بد منه.
هناك دور نشر عريقة توقفت ومكتبات منيت بخسائر فادحة، لكن الكتاب ظل يعيش بصيغه الأخرى فهو أقل تكلفة وأسرع مما نتصور، فبات الحصول على الكتاب أسهل بكثير من السابق، مكتبات كاملة مجانية في خدمة القراء.
ومن النتائج الإيجابية لهذا البلاء، أصبح بإمكاننا أن نعقد الاجتماعات مع العشرات بل المئات عبر تطبيقات مدفوعة أو مجانية، انطلاقا من البيت، وما لم ننجزه في مكاتبنا ومؤسساتنا، أصبح بالإماكن أن ننجزه انطلاقاً من بيوتنا، بحيث إن وسائل التواصل الرقمية لم تعد محتاجة إلى مكاتب ومؤسسات، فيمكن تنظيم الاجتماعات عبر التقنيات الرقمية المجانية الحديثة بسرعة قياسية.
سيكون ذلك دافعاً لمؤسساتنا أن تعمل به في المستقبل، ويكون العمل أكثر إنتاجية، وتصبح المؤسسات إلكترونية مُتاحة كما هي الحكومات الإلكترونية التي لعبت من خلالها الإمارات دوراً رائداً.
مع هذا الواقع المتغيّر، أصبح الفضاء الافتراضي والمنصّات الرقمية حقيقة بعد كورونا، بل وأكثر فاعلية في تقديم الفعل الثقافي والتفاعل معه.
فبين عشيةٍ وضحاها، أصبحنا أكثر في قلب الوسائط التكنولوجية الحديثة، وأكثر خبرة في استخدامها. وأصبح المنتوج الثقافي يمكن تسويقه عبر شبكة الإنترنت، وعرض الأعمال التلفزيونية والسينمائية والمسرحية عبر اليوتيوب أو منصّات البث المرئي. وهكذا مع الندوات والمحاضرات عبر تطبيق "زووم".
إن الامتحانَ العسير لوباء كورونا دفع شعوب الأرض إلى اتخاذ موقف موحد إزاء استخدام التكنولوجيا، ومشاركة المعلومات والتقنيات والشبكات، فأصبح العالم في متناول الجميع بعد أن كان متباعداً.
وفي الأفق، برزت ملامح تطوير الطب الرقمي، والذكاء الاصطناعي، والأنظمة الإلكترونية الأخرى. أي أن هذه الأزمة وضعتنا على مفترق طرق، ولكن في طريق موحد وبحلول سریعة ذات فعالیة وكفاءة. اكتشفنا بعد تفشي هذا الوباء، أنّنا أحوج ما نكون إلى عالم التكنولوجیا البارعة والخيالية في مواجهة التحديات. وانبثقت المواھب والمھارات في مجال تطويع العلوم والتكنولوجیا وظهور المواهب في مواجهة أشرس وباء عرفته البشرية في العصر الحديث.
لذا تبقى الثقافة أحد الحصون الابتكارية التي أبدعها الإنسان، ولها فاعلية البقاء والإستمراية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة