عوالم «تزوير العملات» الخفية.. أسرار ثاني أقدم مهنة في التاريخ

تشير الأدلة التاريخية إلى أنه منذ أن وجدت النقود المادية عبر التاريخ، كانت عمليات تزوير العملات حاضرة بقوة في كل أنحاء العالم.
وأحدث عمليات التزوير هي الواقعة التي كشف عنها مصرف ليبيا المركزي، حيث أعلن عن عملية تزوير ضخمة للدينار الليبي والتي بلغت قيمتها 3.5 مليار دينار (645.756 مليون دولار).
وعبر التاريخ، اختلفت أسباب التزوير، مابين الماضي البعيد واليوم، وعادة ما كان السبب الواضح والرئيسي، هو إمكانية الحصول على المال مقابل لا شيء تقريبًا، مع مراعاة احتمالية السجن كعقوبة.
ومع ذلك، تغيرت أساليب التزوير، فالتقدم التكنولوجي السريع جعل التزوير أسهل بكثير، وقلص المدة التي تظل فيها العملة مقاومة للتزوير.
ونتيجة لذلك، اتجه منتجو العملات من الدول، إلى إصدار عملات جديدة في فترات زمنية أقصر للتفوق على المزورين، بحسب ما أفاد الموقع الرسمي للبنك المركزي الأسترالي "ريزرف بنك أوف أستراليا".
وجريمة التزوير قديمة قدم النقود نفسها، ويمكن استهدافها بالفئات النقدية منخفضة القيمة وعالية القيمة. وفي معظم الحالات، يكون الدافع وراء التزوير هو تحقيق مكاسب شخصية، ولكنه يُستخدم أحيانًا كسلاح سياسي لزعزعة استقرار الدول المنافسة.
وفي هذا التقرير تقدم "العين الإخبارية" نبذة تاريخية عن التزوير، مسلطةً الضوء على حوادث مختارة عبر الزمن لعمليات تزوير العملات.
ثاني أقدم مهنة في التاريخ
بحسب ما أفاد موقع Wired، يُنظر إلى تزوير العملات على أنه "المهنة الثانية الأقدم" في التاريخ بعد الدعارة، إذ نشأت الحاجة إلى تقليد وسائل التبادل منذ أن وُجدت أنظمة القيم المتداولة بين البشر.
ففي العصور السحيقة، حين استخدم الناس القواقع والأصداف كوسيلة للمقايضة، ظهرت محاولات بدائية لصنع قواقع مزيفة شبيهة بالأصلية لخداع المتعاملين.
ومع تطور الحضارات وظهور العملات المعدنية في آسيا الصغرى حوالي القرن السابع قبل الميلاد، تنامى التزوير مع استخدام تقنيات مثل "حشو" العملات الرخيصة بمعادن رديئة وطلائها بطبقة رقيقة من الذهب أو الفضة، في محاولة لخلق نسخة مزيّفة يصعب كشفها.
هذا التلازم التاريخي بين العملة والتزوير يعكس أن الجريمة رافقت المال منذ لحظة ابتكاره.
كيف استُخدم تزوير العملات كسلاح حرب وتجسس اقتصادي؟
بحسب تقرير لعدة مصادر منها، مجلة "تايم"، وموقع "إير ميل نيوز"، فإن تزوير العملة كان يُستخدم تاريخيًا كسلاح حرب وتجسس اقتصادي، كوسيلة لإغراق الأسواق المحلية لدولة معادية بكميات كبيرة من العملة المزيفة. وذلك لتحقيق أهداف حربية تشمل، فقدان مواطني الدولة المعادية للثقة في العملة الوطنية، وانهيار قيمتها، وإحداث اضطراب بالنشاط التجاري بالدولة المستهدفة، وإضعاف قدرة الحكومة على تمويل الحرب أو الإنفاق الداخلي.
فبدلًا من شن حرب بالسلاح فقط، كانت بعض الدول تشن "حربًا مالية" عبر طباعة أوراق نقدية مزيّفة تضاهي الأصلية.
ومن أبرز الأمثلة التاريخية على استخدام تزوير العملات كسلاح في الحروب،
عملية بيرنهارد (Operation Bernhard) – في الحرب العالمية الثانية، والتي تعتبر أخطر وأشهر عملية تزوير منهجية في التاريخ، وفق وثائق لبنك إنجلترا.
العملية أطلقتها ألمانيا النازية عام 1942 خلال الحرب العالمية الثانية، وكانت خطتها، إغراق الاقتصاد البريطاني بمئات الملايين من الجنيهات الاسترلينية المزوّرة.
وقام النازيون بتجنيد سجناء مهرة من معسكرات الاعتقال لطباعة العملات داخل معسكر "زاكسنهاوزن".
ونجحوا في إنتاج نحو 132 مليون جنيه استرليني مزيفة بجودة تكاد تطابق الأصلية، وذلك بهدف زعزعة الجنيه الاسترليني، وإنهاك السوق المصرفي، وتعطيل اقتصاد بريطانيا.
وحين اقترب الحلفاء من كشف العملية، ألقى الألمان بالأموال والوثائق في بحيرة "توبليتز" بالنمسا.
وهذه العملية تُدرَّس حتى اليوم في مدارس الاستخبارات والاقتصاد الحربي كمثال على "الحرب الاقتصادية غير التقليدية".
أبرز عمليات التزوير المكتشفة عبر التاريخ
وخارج الصراعات العسكرية، كانت هناك عمليات تزوير للعملات شهيرة للغاية، أكشفت مؤخرا خلال السنوات العشر الماضية، ومثلت أبرز عمليات تزوير العملة المكتشفة عبر التاريخ، وتشمل ما يلي من عمليات:
عملية فرانك بورايسا (Frank Bourassa)
تُعد عملية فرانك بورايسا واحدة من أخطر وأضخم عمليات تزوير العملات في التاريخ الحديث.
ففي عام 2012، تمكّن رجل الأعمال الكندي فرانك بورايسا من تزوير ما قيمته نحو 250 مليون دولار أمريكي من فئة العشرين دولارًا، مستخدمًا ورقًا خاصًا مطابقًا تقريبًا لمواصفات الدولار الأمريكي، بنسبة 75% قطن و25% كتان.
وقام بورايسا باستيراد الورق المزيف من أوروبا، كما تعاقد مع مطابع سرية لطباعة الأوراق المالية بدقة متقنة، واستمر في توزيع العملة المزورة عبر شبكة معقدة من الوسطاء دون أن يثير الشبهات لسنوات.
إلا أن السلطات الكندية بالتعاون مع المخابرات الأمريكية نجحت في تعقبه وضبط جزء من المبلغ المزوَّر، ليعترف لاحقًا بجريمته في تحقيقات رسمية.
وأُثيرت القضية عالميًا نظرًا لضخامة المبلغ المزيف وجودة التقليد، وعُرضت تفاصيلها في تحقيق صحفي بمجلة GQ عام 2015 بعنوان The Great Paper Caper.
عملية إيمريك جويتنر (Emerich Juettner)
في الولايات المتحدة عام 1948، اشتهرت قضية إيمريك جويتنر، المعروف باسم Mr. 880، باعتبارها من أطول وأغرب قضايا تزوير العملة في التاريخ الأمريكي.
وكان جويتنر، وهو رجل مسن من نيويورك، يقوم خلال أربعينيات القرن العشرين بتزوير أوراق نقدية من فئة الدولار الواحد فقط، بكميات صغيرة وعلى فترات متقطعة.
وظل يُوزّع تلك الأوراق المزيفة في المتاجر الصغيرة والمحال دون أن يلفت الانتباه طوال أكثر من عشر سنوات.
ورغم ضعف جودة الأوراق التي كان يطبعها، إلا أن الكميات الضئيلة والتوزيع الذكي حالت دون كشفه.
وبحسب موقع the hustle بعد مطاردة دامت عقدًا من الزمن، تمكنت السلطات من القبض عليه عام 1948، وتحوّلت القصة لاحقًا إلى فيلم سينمائي شهير بعنوان Mr. 880.
و رمز "Mr. 880"، لم يكن لقبًا أطلقه الناس عليه ولا الصحافة، بل كان رقم ملف التحقيق الذي خصصه جهاز الخدمة السرية الأمريكية (U.S. Secret Service) للقضية أثناء تتبعهم سلسلة أوراق الدولار المزيفة أثناء ملاحقتهم لجويتنر.
وحينما امتدت التحقيقات لسنوات طويلة دون أن يُقبض على الجاني، بدأ عملاء الخدمة السرية أنفسهم يطلقون على المزوّر المجهول لقب "Mr. 880" باعتباره "الشخص مجهول الهوية الذي يحمل رقم الملف 880".
كيف تتم عملية تزوير العملات ؟
وفق مصادر، منها موقع howstuffworks.com، والموقع الرسمي لجهاز الخدمة السرية الأمريكية (U.S. Secret Service)، فإن عملية تزوير العملات تتطلب عدة عناصر أساسية تشمل ما يلي:
استخدام الورق المناسب
المزورون الناجحون يبدأون بالحصول على ورق شبيه بالأصل، والذي يصنع غالبًا بمزيج من القطن والكتان، لتقليد ملمس وأداء ورق النقود الأصلي بشكل وثيق.
الطباعة عالية الدقة
غالبًا ما يُستخدم الحبر الأخضر في معظم العملات، وطابعات سطح المكتب أو الليزر من طراز إنجليزي، وربما يُضاف الحديد لتثبيت الحبر، حيث يحاول المزور تقليد لون وأسلوب النقود الحقيقة.
تقليد الحبر المتغيّر
عندما تنظر إلى ورقة نقدية أصلية، خاصة الفئات الكبيرة مثل 100 دولار، ستلاحظ وجود بعض العلامات والرموز التي تغيّر لونها عند تحريك الورقة أمام الضوء.
هذه التقنية تُعرف باسم الحبر المتغيّر اللون (Color‑shifting Ink)، وهي من أصعب الأشياء التي يمكن للمزوّرين تقليدها، لأنها تحتاج إلى حبر خاص لا يباع في الأسواق العادية، ويُصنع داخل مطابع البنوك المركزية تحت رقابة مشددة.
ولأن معظم المزوّرين لا يستطيعون تقليد هذه التقنية بدقة، لذا يحاولون رسمها أو طباعتها بشكل عادي، لكنها لا تتغير أبدًا عند تحريك الورقة أو تعريضها للضوء، مما يجعلها واحدة من السبل التي تسهل كشف التزوير.
تعزيز ملمس النقود عبر تقنية "انتيليو- Intaglio "
وضمن أبرز أساليب الطباعة لتعزيز ملمس النقود، تقنية Intaglio أو انتيليو، هي طريقة طباعة بارزة النقش تعتمد على حفر التصميمات الدقيقة (كالصور، والأرقام، والخطوط) على ألواح معدنية (عادةً من النحاس أو الفولاذ).
وسبب تسميتها، أن كلمة انتيليو تعني النقش الغائر، وسُميت كذلك لأن الحبر في هذه التقنية يستقر داخل تجاويف محفورة أسفل سطح لوح طباعة النقود، وليس على سطحه كباقي طرق الطباعة.
التوزيع التدريجي بذكاء
تكون هذه المرحلة لما بعد الإنتاج، حيث يتم توزيع الأموال المزيفة بحذر عبر المتاجر الصغيرة، أو أماكن لا يشتبه فيها الناس، لتفادي الانكشاف السريع، كما فعل Emerich Juettner بعملات من فئة 1 دولار موزعة بشكل متقطع.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMjAzIA==
جزيرة ام اند امز